في غار حراء - وهو غار يقرب من ثلاثة أمتار في مترين في قمة جبل على يسار السالك من مكة إلى عرفة - كان محمد وهو في سن الأربعين قبيل الرسالة يتجنث
كان محمد في هذه الأيام يألف العزلة (لم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده) وكان يخرج إلى شعاب مكة وبطون أوديتها
وكان يقضي شهراً مجاوراً في غار حراء
هكذا تقول كتب السيرة
فيم كان يفكر؟ وما الذي كان يطلب؟ وما هذه الحالة النفسية الجديدة التي استولت عليه؟ وما الذي جعله يهرب من الناس وقد كان بهم أنيساً؟ يسعد بالوحدة، ويسعى إلى العزلة، ولا يطمئن إلا إلى نفسه وتفكيره؟ وما الذي جعله يختار قمة جبل يشرف منه على العالم حوله فتسبح نفسه في التفكير من غير أن يحدها حد أو يقف بها عند غاية
ما هذه الأفكار التي كانت تملأ نفسه شهراً فلا يمل التفكير، ولعله كان يود أن يبقى كذلك أشهراً لولا واجب أهله وواجب عشيرته؟
ولكن هل لنا أن نتساءل هذه الأسئلة؟ وإذا سألناها فهل في استطاعتنا أن نجيب عنها؟
هل في استطاعة الجاهل أن يشرح أفكار الفيلسوف؟ وهل في مكنة من لا يحسن الرياضة أن يتخيل ما يفكر فيه الرياضي؟ وهل للنملة أن تتساءل فيم يفكر الإنسان؟
ولكن ما حيلة الإنسان وقد خلق طموحا إلى أقصى حد وأبعد غاية، لم يقنع في باب المعرفة بشيء، لم يقنع بالأرض ففكر في السماء، ولم يقنع بالظاهر ففكر في الحقائق، بل لم يقنع بآثار الله فأراد أن يعرف ذات الله، وهيهات هيهات!
أكبر الظن أن (محمداً) في هذه الفترة، وعلى الأخص في غار حراء كان في حيرة ما أشدها من حيرة عبر الله عنها بقوله (ووجدك ضالا فهدى)
لقد عرف قومه فلم يعجبه دينهم ولا نوع حياتهم ولا كفرهم ولا إيمانهم ولا أخلاقهم؛ وسافر إلى الشام فرأى فيها مدينة الرومان بمالها وأعمالها التجارية وترفها ونعيمها ودينها الرسمي ومظاهره، فلم يعجبه شيء من ذلك. لقد رآهم يعيشون كما يعيش السمك يأكل بعضه بعضاً،