للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الرأي والعقيدة]

للأستاذ أحمد أمين

فرق كبير بين أن ترى الرأي وأن تعتقده، وإذا رأيت الرأي فقد أدخلته في دائرة معلوماتك، وإذا اعتقدته جرى في دمك، وسرى في مخ عظامك، وتغلغل إلى أعماق قلبك.

ذو الرأي فيلسوف، يقول إني أرى الرأي صواباً وقد يكون في الواقع باطلاً، وهذا ما قامت الأدلة عليه اليوم، وقد تقوم الأدلة على عكسه غداً، وقد أكون مخطئاً فيه، وقد أكون مصيباً، أما ذو العقيدة فجازم بات لا شك عنده ولا ظن، عقيدته هي الحق لا محالة، هي الحق اليوم وهي الحق غداً، خرجت عن أن تكون مجالاً للدليل، وسمت عن معترك الشكوك والظنون.

ذو الرأي فاتر أو بارد، أن تحقق ما رأى أبتسم ابتسامة هادئة رزينة، وإن لم يتحقق ما رأى فلا بأس، فقد احترز من قبل بأن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيره خطأ يحتمل الصواب، وذو العقيدة حار متحمس لا يهدأ إلا إذا حقق عقيدته. هو حرج الصدر، لهيف القلب، تتناجى في صدره الهموم، أرَّق جفنه وأطال ليله تفكيره في عقيدته، كيف يعمل لها، ويدعو إليها، وهو طلق المحيا مشرق الجبين، إذا أدرك غايته، أو قارب بغيته.

ذو الرأي سهل أن يتحول ويتحور، هو عبد الدليل، أو عبد المصلحة تظهر في شكل دليل، أما ذو العقيدة فخير مظهر له ما قاله رسول الله: (لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته) وكما يتجلى في دعاء عمر: (اللهم إيماناً كأيمان العجائز) شعر جديد لقد رووا عن (سقراط) أنه قال (إن الفضيلة هي المعرفة) وناقشوه في رأيه، وأبانوا خطأه، واستدلوا بأن العلم قد يكون في ناحية، والعمل في ناحية، وكثيراً ما رأينا أعرف الناس بمضار الخمر شاربها، وبمضار القمار لاعبه. ولكن لو قال سقراط إن الفضيلة هي العقيدة، لم أعرف وجهاً للرد عليه، فالعقيدة تستتبع العمل على وفقها لا محالة، قد ترى أن الكرم فضيلة ثم تبخل، والشجاعة خيراً ثم تجبن، ولكن محالة أن تؤمن بالشجاعة والكرم ثم تجبن أو تبخل.

العقيدة حق مشاع بين الناس على السواء، تجدها في السذج، وفي الأوساط، وفي الفلاسفة. أما الرأي فليس إلا للخاصة الذين يعرفون الدليل وأنواعه، والقياس وأشكاله. والناس يسيرون في الحياة بعقيدتهم، أكثر مما يسيرون بآرائهم، والمؤمن بعقيدته يرى ما لا يرى

<<  <  ج:
ص:  >  >>