للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[تعقيبات]

للأستاذ أنور المعداوي

موكب الحرمان

كان لقلبه في محراب فنها صلوات. . وفي محراب فنها كم صلت قلوب، ولكني لا أعرف قلبا أطال السجود مثل قلبه! كان يقدسها وهي ترسل النغم فينصت الوجود، يوم كان في أنغامها أنين وحنين، وفي ألحانها تبريح وتسبيح. . . وكانت حين تغني له وتفني نفسها في غنائها، أشبه براهبة متعبدة، تندت من دموعها صفحات الكتاب المقدس! وأقام لها في معرض الفكر صورا فاتنات، وحشد لها الخيال يمدها بكل ما في إبداعه من ألوان وظلال

كانت إنسانة، وكانت فنانة، وخيل إليه يوما أنها سمت بفنها وإنسانيتها إلى الحد الذي تشعر عنده الكلمات بأنها في حاجة إلى عون الوحي والإلهام!. . . وكانت قصة هواهما أنشودة حلوة: بمثلها لم يحظ في الفن يوما وتر، ولم يشد يوما في اليم ملاح، كلا. ولم يسمع شراع. . . وأسطورة عذبة: بمثلها لم يحط في الوهم يوما خيال، ولم يصدح في البيد يوما رعاة، كلا. ولم يكتب يراع! وكان معبد القديسة يملأ النفوس رهبة وحمة وحنانا. . . كانالترتيل يهز جوانبه بين حين وحين فتهتز المشاعر وتتعلق الأنفاس وتهوم الأرواح. . . . وكانت أغانيها نشوة الشعور في موكب الأفراح، وفرحة القلوب في عرس الحياة!

وفي ومضة البرق لفها الليل، فقد كل شيء. . . معبد القديسة؟ لقد خيم في جنباته الصمت وشاع السكون! معرض فكره وصورة الفاتنات؟ لقد محت ريشة القدر كل ما فيها من ألوان وظلال!. . . وهاهو ذا النبع قد جف، والزهر قد ذبل، والمطر قد ذهب إلى غير معاد! لقد لقيت مصرعها في حادث لا يزال يذكره الناس، وذهبت بأحلامها وأحلامه إلى هناك، إلى وادي العدم. . . والنيل الحبيب الذي بارك أمسياتهما لا يزال يجري، والقمر الساحر الذي رعى حبهما لا يزال يبزغ، والليل الساكن الذي كتم سرهما لا يزال يقبل كلما ولى نهار!

أما هو في أسوء ما فعلت به بعدها الأيام! لقد طوى القلب على أحلامه، وعاش من بعده على أطلال الذكريات. . . ولقد سار وحده في موكب الحرمان: يهتف للأنة الحائرة، ويصفق للزفرة المحرقة، ويعود آخر الأمر وملء نفسه أشلاء آمال!. . . وأما حياته، فيا سوء ما أصبحت: لقد أصبحت أقباساً من وهج اللوعة، وفنوناً من عبقرية الألم، وخريفاً لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>