للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[لا تثوروا على المدينة الحاضرة]

للأستاذ محمد أيوب مدرس التاريخ القديم بكلية الآداب

إذا عجبت فإنما أعجب لكل من يفكر في التمرد أو الثورة على المدينة الحاضرة. وإني أنظر حولي فأجد أناساً كثيرون يحملون حملة شديدة على هذه المدينة ويودون إلغاءها بجرة قلم حتى تعود الإنسانية إلى الحياة البدائية الأولى، حياة البساطة والسذاجة لأنها في نظرهم خالية من التعقيد، قريبة من الطبيعة، وكل شيء قريب من الطبيعة جميل. وإني أسائل نفسي لماذا يريد هؤلاء الناس العودة بنا إلى الوراء حتى نعيش تلك الحياة التي يسمونها حياة بسيطة وما هي إلا حياة بدائية تقرب الإنسان من الحيوان، فقد كان الإنسان في القرون الخوالي كالحيوان يهيم على وجهه في القفار لا يعرف إذا كان يعيش أو لا يعيش.

فالمدينة الحاضرة أسمى ما وصل إليه العقل البشري، وهي عبارة عن تطور العقل البشري في مختلف القرون الماضية، بل هي التراث المجيد الذي تركه لنا العقل منذ حياة الإنسان الأولى، فكل المدنيات متصلة بل ومتمم بعضها للبعض الآخر، بحيث لا نستطيع أن نقيم حاجزاً بين مدنية ومدنية. فنقول إن هنا حدود المدنية المصرية، وأن تلك حدود المدنية اليونانية، بل ونحن لا نستطيع أن نوجد حلقة فاصلة بين المدنية الحاضرة وبين مدنية أخرى أجنبية عنها، إذ لا بد من التطور. وليس هناك من شك في أن هذه المدنية ستتطور في الأجيال القادمة كما سبق لها أن تطورت في الأجيال الماضية، فالمدنية الحاضرة وهي التي ابتدأت بإحياء العلوم ونهضة الآداب، متممة للحضارات القديمة، حضارات اليونان والرومان. وليس منا من يستطيع أن ينكر فضل تلك العقول الجبارة، عقول اليونان والرومان فيما أنتجته لنا في ميادين الفلسفة والعلم والآداب والقانون

ويخطئ من يظن أن المدنية الحاضرة عبارة عن الناحية المادية فحسب، وهي التي نتج عنها ما نراه اليوم من تحسين في أمورنا العامة وفي أمورنا الخاصة. كلا! هي لا تقتصر على هذه المخترعات العظيمة كالسكك الحديدية، والطيارات والسيارات التي قربت المسافات بين الأمم، وكالتلفون والتلغراف والراديو، وهي التي جعلت أنحاء العالم كلها تشعر بأنها عالم واحد، تربط بين أجزائها رابطة قوية؛ أقول ليست تقتصر هذه المدينة على هذه النواحي التي جعلت الإنسان يتحكم إلى حد كبير، في نظام هذا العالم الذي نعيش

<<  <  ج:
ص:  >  >>