للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وعي المقالة الصامتة]

الصمتالبليغ

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

روي أن لقمان الحكيم جلس ذات يوم إلى نبي الله داود عليه السلام، وهو يعمل درعاً من حديد، فعجب من ذلك لقمان، واعتملت في نفسه عواطف مختلفة، وأحاسيس متباينة، لأنه لم ير درعاً قبل الآن يصنعها صانع ملهم، في براعة وإتقان، وحذق وافتتان. بيد إنه أثر الصمت، لأنه وجده أنسب من الكلام للمقام، إذ لم تبد على داود عليه الإسلام علائم إجابته عن الحقيقة ما يصنع إذا سأله، وكنه ما يعمل إذا طلب منه بيان شيء من أمره، وظل لقمان على هذه الحال سنة كاملة، تمت فيها الدرع، وقاسها داود على نفسه، وقال: درع حصينة ليوم قتال!

فقال لقمان: الصمت حكم، وقليل فاعله. .!

وهكذا يأخذ حديث الصمت بمجامع القلوب، كما يأخذ حديث القول بمجامع القلوب، حتى يكاد يراجع الإنسان نفسه فيما علم من بلاغة الكلام، وأنها مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، وأن ذلك إن جاز حيث يستباح القول، فلا يجوز الاقتصار على ذلك حيث يمتنع على الإنسان الكلام، أو بمعنى أدق حيث يمنع من الإبانة والإفصاح. .

والصمت في بعض الأحايين أبلغ من الكلام. ولا يضير القارئ أن يجد مقالا نالت منه يد بالاختصار أو الحذف والبتر، وحكمت عليه دون روية بالوأد والقتل، وقضت على جمهرة القارئين بالحرمان من أصفى مورد، في عصر التاثت فيه الضمائر، واشتركت الألباب. . أجل لا يضر القارئ المخلص الذي تعود أن ينال غذاءه الفكري الكامل من كاتب بعينه، وأديب بذاته - ليكفيه أنيقرأ العنوان فحسب، ليستخلص منه الفكرة، وأن ينظر إلى الصحيفة البيضاء، فتتحول إلى نور يضيء معالم النفس، ويملأ شغاف القلب، ثم ينطبع في ذهنه كل ما كان يجب أن يسطر عليها، ويسجل فيها، ويراد بها. .!!

ولقد يسهب الخطيب ويشقشق، ويطنب الكاتب ويتدفق، ويتلاعب القاص أو الباحث بالألفاظ ويشقق، ثم لا يعرف السامع أو القارئ ما يريد أن يرمي إليه أحد هؤلاء من غرض، أو يهدف إليه من غاية، ويظل حائرا بين آفاق من الفكر الشتيت، وركام من

<<  <  ج:
ص:  >  >>