كانت أربعون ليلة من ليالي سيناء فد مرت على قلبي المضطرب الممزق وأنا لا أنفك أحملق في ذلك الشبح المفزع. . . شبح ملك الموت عليه السلام! إذ هو يلم بالحجرة الرهيبة التي كنت أحبس فيها نفسي لأمرض أعز المخلوقات علي وأحب الناس إلى قلبي؛ وذلك أن الطبيب المعالج لم يأمن أحداً غيري على رعاية أوامره وتنفيذ إرشاداته، فانفردت بالمهمة دون إخوتي، واضطلعت بها وحدي، وإن كانت إحدى أخواتي تريحني ساعة من نهار فكنت أقضيها نائماً ذلك النوم المشرد الممتلئ بالأحلام
وكنت دائم الصلاة لله أن ينقذ والدتي، وكنت أدهش أحياناً كيف لا يجيب دعائي. . . وكنت أعتب عليه، استغفره وأتوب إليه، كيف يقضي على هذا اللسان الذي طالما لهج بذكره، وقدس له، وحمده وأثنى عليه، بهذا الصمت الطويل المؤلم الذي كان يحاول أن يتشقق عنه كي يكلمنا، فما يستطيع غير الإيماءة النحيلة يوزعها علينا في جهد وفي عناء. . . الإيماءة التي تسبح في فيض من الدمع، وهي مع ذاك تبتسم لتخفف ما يعصف بأفئدتنا من وجد، وتهون علينا ما يذيبنا من تبريح
أجل. لا أخفي عليك يا صديقي أنني كنت أشتد في مناشدة الله الذي أستغفره وأتوب إليه؛ كيف يرضى بأن ينعقد هذا اللسان الذي طالما ترطب بذكره والتسبيح له، والذي قضى خمسين عاماً يؤدي الصلوات الخمس كأحسن ما يؤديها نبي، وكأحسن ما يقوم بها صديق؛ وهو مع ذاك يؤدي النوافل على اختلاف أنواعها، ويردد الأدعية والأوراد، ويتهجد ويعتكف ويصوم رمضان وغير رمضان، ويعف فلا ينطق بهجر، ويتورع فلا يتحرك بأذى، ويدعو لنا ولجميع الناس بالخير، ويرتل آي الذكر الحكيم أناء الليل وأطراف النهار. . . فكيف يصمت هذا اللسان الرحيم الكريم، وكيف يغلبه ذاك الشلل الخبيث فينوء بالكلمة الواحدة ويعجز عن لا ونعم، ومن حوله أحباؤه الأعزاء عليه يكلمونه فلا يكلمهم، ويحاول أن يودعهم بكلمة واحدة فلا يستطيع إلى تلك الكلمة الواحدة من سبيل، وأنا مع ذاك أدعو الله وأتوسل إليه بماضي هذا اللسان أن يفك عقاله، وأن يحسن حاله، ثم يخشاني منه ما