اختلفت مذاهب الأدباء في المتنبي بين المدح والذم اختلافا شديدا منذ العصور الذي كان يحيا فيه إلى الآن، وقد مر على وفاته عشرة قرون كاملة. وانك لتجد اليوم بعد هذه الأجيال الطويلة من يتكلم عن المتنبي بلسان الصاحب بن عباد خصمه العنيدالذي جعل وكده النيل من المتنبي وإنكار فضائله بالحق أو الباطل، ومن يدافع عنه ويتعصب له أكثر من ابن جني وأبي العلاء. ولقد كان حريا أن تضيع حقيقة المتنبي بين التفريط والإفراط من الفريقين كما هو الشأن في كل ما يتعاوره هذان العاملان المختلفان، ولكن المتنبي كان شخصية فذة تأبى إلا الإعلان عن نفسها والظهور بمظهرها الحقيقة مهما حالت الحوائل بينها وبين الناس فالمتنبي لا يجهل أحد من المثقفين اليوم أنه من أكبر شعراء العربية إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق. رفع من شأن الشعر العربي فأحله مرتبة لم تكن له من قبل، بما نفى عنه من الزخارف اللفظية والأساليب التقليدية والأغراض السافلة، وما نفخ فيه من روح العظمة والابتكار والسمو إلى الغايات البعيدة المنال. حتى انه إذا مدح شخصا فان مدحه له يكون كالتلقين لمبدأ سام لا يجد الإنسان مندوحة عن الاستجابة له من أعماق نفسه. ولا نستدل على ذلك بأكثر من مطلع هذه القصيدة التي يمدح بها سيف الدولة، فان فيه وحده بلاغا لمن يتشكك في هذا القدر، وهو قوله:
على قَدْرِ أهلِ العزْمِ تأتي العزائم ... وتَأتي على قَدْرِ الكِرَامِ المكارِمُ
وتَعْظَمَ في عَيْنِ الصَّغير صغارُها ... وتصغُرُ في عين العَظِيم العَظاِئمُ
وكما يعرف الجمهور هذه الحقيقة من أمر المتنبي اليوم، فانه كان يعرفها بالأمس وفي نفس عصر المتنبي. يدلنا على ذلك هذه العناية الكبيرة من الأدباء بشعره؛ فمن شرح له، إلى انتقاد، إلى تقريظ، إلى غير ذلك مما لم ينله شاعر قبله ولا بعده. وفي حياة المتنبي قال ابن العميد لأحد خلصائه: (انه والله ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في إخماد ذكراه، فقد ورد على نيف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:
طَوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ ... فَزِْعتُ منه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقه أملاً ... شَرِقت بالدمع حتى كاد يَشرَقُ بي