أعرض في مقالات قليلة أمهات الأخلاق في القرآن، وكيف بينها الكتاب الكريم وكيف دعا إليها بعد أن أقدم مقدمة وجيزة تبين المقصد الآخر الذي قصد إليه القرآن من تربيته وتعليمه: سئلت عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلوات الله عليه، فقالت: كان خلقه القرآن. فأخلاق القرآن هي التي تجلت في محمد خاتم النبيين وأصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم من بعد. وإنما يظهر صلاح القانون حين إنفاذه، ويتبين سداد الرأي حين يختبره العمل، ويُعرف رشاد الطريقة حينما تهدي السائرين عليها إلى الغاية المثلى. فإذا أردنا أن نقدر أخلاق القرآن فإنما نتبينها في سيرة من عملوا بالقرآن
كل ما يزدان به تاريخ الإسلام من سير الملوك والولاة والقواد والقضاة والعلماء والصالحين وغيرهم، فهو أخلاق القرآن تتجلى في صور مختلفة. فإن رأيت ملكاً من المسلمين ملك الدنيا ولم تملكه، وسيطر على الأرض ولم تسيطر عليه، فساس عباد الله بعدل الله، وأتعب نفسه لريح رعيته، وراقب فيهم ربه ليله ونهاره، فهذا من أخلاق القرآن. وإن رأيت والياً دخلت الدنيا يده ولم تدخل قلبه وكف يده عن المحارم ولم يأل جهداً في العمل لخير الناس، فهذا من خلق القرآن كذلك. وإن رأيت قائداً يحتقر المهالك، ويقذف بنفسه في المعارك، يفتح البلاد ولا يُعنت العباد، قد ملكت القناعة قلبه ويده، وكفه العدل عن العدوان، فهذا من خلق القرآن في أحد مظاهره. وإن رأيت قاضياً كد عقله في معرفة الحق والتثبيت، وآثر العدل وجانب الجور وأخلص لله فكره وحكمه، وأقض مضجعه عظم التبعة، فذلك من قضاة القرآن. وإن رأيت عالماً توجه إلى الله بفكره، وأدام النظر في ملكوت السماوات والأرض، ودأب في البحث ابتغاء الحق لا يميل مع الهوى ولا يرجو إلا وجه الله فهو من علماء القرآن.
عدل أصحاب السلطان، وجهاد المجاهدين بالحق، وإحسان المحسنين في كل عمل، وطلب الحق والصبر عليه، ودفع الظلم والنفور منه، والاضطلاع بأعباء الحياة، والصبر على المكاره والثبات على الشدائد، كل ذلك من أخلاق القرآن. والخلاصة أن الحياة في أقوى