الشعر الآن غيره قبل حين. . . حيث كان لا يطلب منه إلا أن يسمو في اللفظ أو في المعنى على اختلاف في فهم الشعر ووظيفته. أما الآن فإن أهم وظائفه أن يصدق في نقل أحاسيس الشاعر وتأثره بالتجارب الشعورية التي تفيض بها الحياة. . . وأحسب أن الشعر بلغ منتهاه من التطور. . . حين تحرر من سلطان اللفظ وسلطان المعنى الذي لم يكن للشاعر به عهد. . . وإنما هو تخيره من بين المعاني لأن غيره من قراء الشعر يعجب به ويدهش له، وحين قدر له أن يكون وقفاً على صاحبه. . . يعرض دقات قلبه لوجه جميل، وحركات شعوره لمنظر جميل أو منظر قاتم. . . تمثله الحيوات التي يحياها مواطنوه.
وجميل أن يطلب من الشعر أن يكون نتيجة إحساس. . قبل أن يكون نتيجة فكرة. . تعرض على أنها حكمة خالدة أبدية. . فهو إذ ذاك يكون شعراً. . وشعراً فقط. . لا منبراً لوعظ وإرشاد وتنبيه إلى الحقائق.
وإن هذا الذي قرأته في عدد سالف من الرسالة، للآنسة الفاضلة والمطوقة، لهو شعر حقاً. . يمنح من الإحساس ويصدر عنه. . . كما لو لم يكن غيره مصدراً لشعر في القديم والحديث.
وليس أصدق في نقل الأحاسيس إلى لغة الشعر من قول الآنسة الفاضلة تعلن وحدتها. . . وهي إذ ذاك تقطع مفاوز الحياة. دون أن تلقى بين يديها من يؤنس وحشتها ويشعرها أن الحياة غير الملل والصمت والظلام. . . لم تلف بين يديها هذا الإنسان. . . وإذا الحياة عندها. . تيه معمي. . ليس فيه غير ظلام مطبق وملل وسأم ووحشة فهي تقول:
سرت وحدي في غربة العمر؛ في التيه المعمي، تيه الحياة السحيق
لا أرى غاية لسيري ولا أبصر قصداً يوفى إليه. . . طريقي
ملل في صميم روحي منساب، وفيض من الظلام الدفوق
وأنا في توحشي تنفض الحيرة حولي أشباح رعب محيق
سرت وحدي في التيه , لا قلب يهتز صدى خفقة لقلبي الوحيد
سرت وحدي لا وقع خطو سوى خطوي على المجهول المخوف البعيد