أول ما يطالعنا من معاني الأمية أنها الجهل بمبادئ القراءة والكتابة، اللذين هما مفتاح الثقافة، والطريق المؤدى إلى العالم. غير أننا نجد أحياناً أناساً ممن مهروا في القراءة والكتابة، ونالوا من العلم والثقافة حظاً، ينحدرون إلى جهالة جهلاء وضلالة عمياء، إذ لا يفرقون بين حق وباطل، ولا يميزون بين فضيلة ورذيلة، ولا يؤدون حق العلم عليهم بالترفيه عن قومهم، وبخدمة أوطانهم، أولئك والأميون سواء، بل أن بعضاً من الأميين الذين لم يمحصهم أدب، ولم يوقحهم تعليم، قد يكونون أسلم نية، وأطهر طوية، وأصدق عاطفة، وأعرف بأقدار الناس وحقوق الأوطان. وقد استعاضوا بالذكاء والتجربة عن أميتهم، ودرسوا علوم الحياة في مدرستها فتخرجوا فيها فضلاء يشاءون أولئك الذين أخرجتهم الكتابة من ربقة الجهل، وخلصتهم القراءة من حظيرة الأمية، ولكن لا تزال بنفوسهم من الجهل الأصيل علقة، ومن الأمية الراسخة لوثة.
وليس معنى ذلك أننا نتجنى على الكتابة والقراءة، ونضلع مع الأمية، ونحط من قدر الثقافة. كلا وحاشا: ولكننا نحبها جميعاً على أن تكون الطريق الموصلة إلى فهم الحق فهماً صحيحاً؛ وبلوغ الفضيلة بلوغاً كاملاً.
ويبدو أن هذا المعنى الذي نفهمه الآن عن الأمية، لم يكن معروفاً قبل أن تسلك الكتابة الخطية سبيلها إلى الانتشار والذيوع. فكان الأميون هم العامة لا الخاصة، والأوشاب لا الأشراف، والإمعات المغمورين لا الرؤساء المشهورين، ولهذا أطلق اليهود قديماً لفظ (الأميين) على عرب الجاهلية استهانة بأمرهم، وتحقيراً لشأنهم، حتى رفع الله هذا اللفظ وشرفه وكرمه، فنعت به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
أما الشعر فهو فطرة موهوبة لأخلة مكسوبة، ولحن إلهي لا نغم تعليمي، تكسبه المقادير في نفوس جبلت منذ أزلها على أن تكون شاعرة، نفوس تتوثب عاطفاتها، وتتوقد احساساتها وتسجل عليها الأيام ما يطيب لها من جادثات بشرية ومشاعر إنسانية.