للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من صفحات مطوية:]

إنطاكية وخليج الإسكندرونة في الحرب العظمى الأولى

للأستاذ أحمد رمزي بك

ينعم المرء بمناظر رائعة إذا كان على ظهر باخرة تسير على مقربة من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إذ تظهر جبال لبنان والعلويين أمام ناظريه وتحتها المرافئ متقاربة متشابهة؛ فإذا جن الليل تبدو أنوار القرى المتناثرة على سفوح الجبال وهي تتلألأ في الظلام. إنه منظر يوحى لراكب البحر في ظلمات الليل البهيم شعور الأمن والاطمئنان، فتزول من نفسه مخاوف البحر ومخاطره. فإن وصلت إلى خليج الإسكندرونة وجدت البحر يغزو الأرض ويبدو هذا الجزء منه كأنه بحيرة تحيط بها الجبال من ثلاث جهات، ووراءها قمم عالية شامخة كأنها تناطح السماء: هذه جبال اللكام عند العرب وأمانوس عند الفرنجة وطوروس وجبال الكفرة، كاروطاغي، عند الأتراك.

ولقد كنت مسافراً مرة في أواسط الأناضول فبلغت مدينة قيصرية، وهي التي فتحها ملكنا الظاهر بيبرس، وركبت القطار منها إلى الشام، فوقف بنا عند مخرج نفق على جبال طوروس، وكان على رأسه محطة أشاروا على بالنزول فيها لآخذ منها القطار السريع من هذه الرابية العالية رأيت البحر ممتداً من بعيد، وكشفت سهول ولاية أضنة أو كيليكية، كما تبدو للناظر إليها من نافذة طائرة محلقة في السماء: قلت هذا هو أول ما تقع عليه أنظار كتائب الزاحفين من الشمال، وهذا ما رأته جنود الصائفة والحمدانيين وعسكر مصر أيام ابن طولون وبيبرس وقلاوون في عودتهم من حروب أرض الروم، بل قل هذا أول مناظر الحياة التي لقيها الصليبيون في زحفهم على سوريا بعد أيام الويل والحرمان التي ذاقوها في أرباض آسيا الصغرى.

فإذا انحدرت من مضايق الجبال ودخلت السهل واتجهت إلى الساحل كان أول ما يلفت النظر هذه البحيرة التي تكون خليج الإسكندرونة، لو رآها رجل البحر لقال عنها هذي أكبر مرافئ الشرق، وتصورها الموئل الطبيعي لمئات السفن، ولو نظر إليها رجل البر لقال هذا مركز من المراكز الممتازة في العالم. فهنا التصق الخليج بالأرض وكونا في التاريخ قطعة واحدة وأصبح لها قصة واحدة: هي قصة تلك البقاع من الدنيا التي لها ذنب واحد هو ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>