دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه. فبدأ دعوته في مكة حيث نشأ، ومكث بها داعياً ثلاث عشرة سنة تبعه فيها السابقون الأولون من المؤمنين وهم قليل. فأوذوا في أنفسهم وأموالهم وفتنوا في دينهم. وحيل بين الدعوة وبين ظهورها ونشرها، كما منع الناس من أن يطرق الحق آذانهم أو تصل الذكرى إلى قلوبهم. وكان ذلك بأيدي أولي القوة والحماية، وبأعين أهل الحكم والولاية. وكان المؤمنون يومئذ فئة قليلة لا يملكون قوة ولا يستطيعون دفاعاً ولا يجدون أمناً ولا عدلاً. فلم يجدوا سبيلاً لحياتهم إلى الهجرة من ديارهم
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهاجر إليها المؤمنون من قبله ومن بعده يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله، فحلوا على الرحب والسعة بين إخوانهم وحلفائهم من الأوس والخزرج الذين آزروهم ونصروهم وأشركوهم في ديارهم وأموالهم، وعقدوا معهم أخوة كونت منهم جميعاً جماعة لها من الأسرة توادها وتراحمها وتعاطفها واجتماعها على زعيم رءوف بها حريص عليها، وفيها كل خصائص الدولة من التماسك والمنعة والخضوع لنظام واحد، والسعي إلى غاية مشتركة، والاختصاص بوطن معلوم
لقد كانت الهجرة النبوية بداية لعهد جديد افتتح به العالم طريق كماله الإنساني، وحياته المفكرة، ونظره المستقل؛ فتغيرت لذلك وجهة الأمن، وتبدل مجرى الحوادث، وبدأ التاريخ فصلاً جديداً لتطور فكري منشؤه البحث والنظر، وانقلاب اجتماعي أساسه المساواة والتعاون، وانكشاف ديني غايته تزكية النفس وتكميل الخلق. ولم يكن للهجرة ذلك الأثر إلا لأنها هيأت للمسلمين قيام دولة إسلامية قامت بنشر الدعوة وحمايتها وإيصالها إلى من كان محجوباً عنها. ثم دافعت عن كل من دان بها، فإذا الناس بهديها مهتدون، وبنورها مستضيئون، وبتهذيبها مفلحون، وبآثارها متمتعون
بدأت هذه الدولة يوم أن دخل النبي (ص) المدينة المنورة، واستقر بها زعيما الأوس والخزرج ومن هاجر إليهم من قريش ومن لازمهم من مسلمي العرب، فتألفت منهم جماعة