للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

متحدة جعلت المدينة مقراً لها ووطناً، واتخذت أوامر النبي (ص) ونواهيه نظاماً وحكما، فكانت منهم دولة يحكمها الرسول له فيها سلطان الحكومة كاملاً؛ فهو صاحب الولاية العامة، وهو مصدر التشريع، وله القضاء وإليه التنفيذ، يدير الشؤون ويقود الجيوش، ويجبي الأموال وينفقها في وجوهها ويوزعها على مستحقيها، ويعقد العهود ويقوم على الوفاء بها وينبذ إلى من نقضها، ويحمل الناس على الخطة المثلى ويهديهم صراطاً مستقيماً

وكانت هذه الشؤون على عهد الرسول قريبة الغور بسيطة التركيب رقيقة الحاشية قليلة العدد محدودة المكان ترجع في بساطتها ورقتها إلى ما ألفوه يومئذ من معيشة بدوية، واعتادوه من عادات فطرية، وتوارثوه من تقاليد طبيعية، إذ كان نظام الحكم مستمداً من نظمهم المألوفة عندهم المعروفة لديهم، ولن استمداده لم يتجاوز الصور والأوضاع إلى ما كانت تحويه تلك النظم الجاهلية من هضم لحقوق الضعفاء، وظلم للأبرياء، وأخذ بالشبهات، وتصديق بالخرافات، واعتماد على الترهات، بل كان خالصاً من الظلم، نقياً من الدنس، بريئاً من العيب، صالحاً لزمانه، ملائماً لأهله، كفيلاً بتحقيق مصالحهم وتوفير طمأنينتهم وسد حاجاتهم. ذلك بأن أمره كان إلى الرسول يتلقى فيه وحي ربه، ويهتدي في ترتيبه وتدبيره بهديه، ويجتهد في تكميله بحكمته ونظره، حسبما تقتضيه المصلحة والحاجة، وعلى ضوء ما يدعو إليه التطور الجديد وتهدي إليه الحوادث

من ذلك يتبين أن نظام الحكومة الإسلامية الأولى لم يكن نتيجة خالصة لتطورات حكمية سالفة، ولا أثراً لثورات ماضية، كما لم يكن فكرة أفضت إليها أزمات استعصى حلها، أو حاجات تعذر قضاؤها، أو اختلاف في طرق الحكم لم ينته إلا بانكشافها، وإنما كان هدياً نبوياً وتوفيقاً إلهياً أخذ من النظم المألوفة والتقاليد الموروثة ما لاءم الفطر وصلح على الزمن وأوصل إلى الغاية، ثم نفى منها الفاسد الخبيث مما ساير الأهواء وأورثته المطامع والشهوات، ولم يعلُ فيما ابتدعه من ترتيب ووضعه من أسس ومبادئ عن مستوى الزمن ومدارك العامة من أهله واستعدادهم الاجتماعي وبيئاتهم الحاضرة، بل راعى في تشريعه جميع ما يلابسهم ويتصل بهم من ثقافة وتربية وعادات ووطن ودين اختير لإعلاء كلمته ونشر دعوته، وكذلك راعى الزمن وسيرة الحوادث وتقلباتها، والجماعات وتطوراتها، والحاجات وتغيراتها

<<  <  ج:
ص:  >  >>