للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أرواح وأشباح]

للأستاذ خليل هنداوي

لقد صدق حدسي! وهاهي تمر كرجع الطرف تزورنا فيها مواكب جديدة لهذا الشاعر المبدع من (أرواحه وأشباحه) والحق أن هذه القصيدة الجديدة تعد بذاتها فاتحة (للشعر العربي الحديث) الذي آن له أن يخلع تلك الثياب الرثة التي بالغنا في ترقيعها وتزويقها، حتى نصلت صبغتها، وبليت جدتها! ومما يزيد في قيمة هذه القصيدة أنها أول قصيدة تلدها مصر من الشعر الصحيح، ولا نستطيع القول أنها مبتكرة بأسلوبها وغرضها، لأن بعض السوريين سبقوا إلى هذا النوع من القصائد الواحدة التي يختلف وزنها وقافيتها، ويبقى غرضها واحداً. وأعرف من هذه القصائد (المواكب) لجبران خليل جبران، و (بساط الريح) لفوزي المعلوف، وعبقر (لشفيق المعلوف) و (إرم ذات العماد) لنسيب عريضة، ولكن قصيدة شاعرنا (الملاح التائه) قصيدة وحدها بميزاتها وغايتها، لأن صاحبها اتجه بها شطر الفن الخالص، وجردها من أي غرض يرمي بها إلى الأبتدال، اعتقاداً منه بنظرية (الفن الخالص للفن الخالص) بينما نجد قصيدة (المواكب) تزحف في جو ثقيل مرهق بالفلسفة الشاكة الحائرة، وقصيدة (على بساط الريح) ترمي إلى غرض فلسفي أخرى توجهه العاطفة، وقصيدة (عبقر) تكاد تكون أكثر تجرداً للفن؛ أما قصيدة (إرم ذات العماد) فهي أشواق صوفية هائمة على رمال الوجد والحنين. وأصحاب هذه القصائد جميعها ثائرون على ماضي الشعر العربي وأسلوبه الضيق الموروث، ولذلك تجردوا من قوالبه، وانطلقوا من غاياته، وانقادوا إلى عوالمهم الذاتية المجردة، ولكل غايات استقبلها وبلغها بمقدار ما هامت نفسه، وسما فنه. ولعل أبرز ما في (هذه القصائد) هذه الوحدة في الغاية، تنطلق معها من فاتحتها إلى خاتمتها. وإنا لنجد هذا النوع غريباً في أدبنا، لأن الأدب العربي لم يسجل مثله، في حين أن الآداب الغربية طافحة بهذا النوع الذي يدل على امتداد الفن، وبعد الغرض، وسمو التحليق. وهنالك دواوين قائمة بنفسها لتوحي إليك بفكرة واحدة، على طرائق مختلفة، كهذا الذي فعله الشاعر الفرنسي - فرناند جريك - في ديوانه جمال الحياة، فجمال الحياة فكرة تفاؤلية تسيطر على نفس الشاعر، والشاعر في كل مظهر من مظاهر الكون يتوسم هذا الجمال، ويتغنى به، ومهما يكن من شيء، فإن هذا يدلنا على أن الشاعر

<<  <  ج:
ص:  >  >>