ها أنا اليوم أتماسك فأستطيع أن أذكر رفيق صباي الدكتور محمد الشحات أيوب الذي نقلت إلى الصحف خبر وفاته. ولقد بكاه قلبي فكان البكاء رحمة من الله وقد أوشكت حياتي أن تختنق ضيقاً بوفاته.
أيوب رفيق صباي منذ مدرسة الألفي الابتدائية بمنيا القمح سنة ١٩١٧ إلى آخر عهدنا بتحصيل العلم سنة ١٩٣٩ بباريس.
وهو زميلي في دراستي، كان يحب كما أحب حضارة اليونان لأنها تسمو بالروح إلى أفق لا يمكن أن يدركه إلا من يصل إليه بنفسه بعد جهد طويل. ولقد علقت روحه بمثل اليونان: الخير والحق والجمال، فأبغض الظلم والشر والقبح. من لي اليوم برفيق سواه؟ كنت ألقاه فنرفع من قلوبنا بذكر من نحب من كتاب تلك الحضارة المشرقة. ولقد عرف أيوب كما عرفناه مرارة الظلم الذي ينزله الجهل بالنفوس الخيرة. ولقد تعزى أيوب كما تعزينا بالقيم الروحية. ولقد جاهد أيوب معنا لأننا عقدنا العزم على أن نكسب النفوس بأيماننا. وهاهو أيوب يغادرنا ونحن لم نكد نبدأ الشوط. أيها الأخ الراحل: لقد كنا بحاجة إليك. ها أشعة الأمل تشرق في الأفق البعيد. عزيز على نفسي أن نستأثر بنصيبك فيها. اللهم أملأ قبره ضوءاً. اللهم اهد إليه ضوء قلوبنا.
قد يجهل الناس أيوباً، فهل لي أن يصدقوني إن قلت إنه أمل خبا، أمل قوي لا أعرف أملاً يساويه. لقد كان أيوب (مدرس) التاريخ القديم بجامعة فؤاد الأول (أستاذاً) منقطع النظير. كانت له قدرة عجيبة على البناء التاريخي. كنت تراه يجمع مواده لا من ملخصات التاريخ بل من مصادر التاريخ. وكان رحمه الله يعلم ويحس أن التاريخ قصة نفاذ الروح البشرية إلى العالم والكائنات، ولهذا كان يتتبع مسارب تلك الروح في مظانها. مصادر التاريخ عنده كانت تماثيل فدياس وبراكستيل، خطب بركليس وديموستين، مسرحيات سوفكليس وأربيدس، ملاحم هوميروس، وأغاني بنداروس، قصص هيرودوت، وتحليل توكيديدس. التاريخ عنده كان شيئاً واحداً: الروح البشرية في مظاهرها المتعددة. جاءني يوماً يطلب إلى رواية الفُرس لأيسكيلوس ليتخذها مصدراً من مصادر المعرفة الحقة. المعرفة الإنسانية