أخذ صاحبي كأس الماء في يده، وجعل يرشقها ببصره رشقاً حديداً يلمح لمحاً تحت حواشي الليل، وكنت أرى وهج مقلتيه يكاد يتطاير تطاير الشرار بينهما وبين الكأس. وأدام نظره طويلاً إلى الماء وهو يقر شيئاً بعد شيء ويسكن، فكأني به كان يغمس نظراته الملتهبة في برد الماء، ليبترد من وقدة العاطفة التي تضطرم في داخله. وبعد فترة عب من كأسه عب الظمآن استحر على كبده العطشى، ثم فرغ فوجه إليّ، وقد برق وجهه، أو هكذا تخيلت ثم قال:
آه. . .! ما كان أبصر ذلك الأعرابي الظريف الذي عطش وضل عن الماء في بيدائه، فلما رمى به السير فأفضى إلى بئر عميقة عادية قد بعد ماؤها، أجهد أن ينزف بدلوه من بعض مائها حتى بُلغ به وكاد يهلكه غؤور الماء، وبعد لأي ما استطاع أن ينزح من مائها ما يرويه، حتى إذا شرب وارتوى وأطفأ غلة الظمأ، حمل تلك الدلو بين يديه ينظر إليها ويقلبها كأنها بني من صغار بنيه يرقصه ويداعبه ويقول:
أي دلاة نهل دلاتي!! ... قاتلني وملؤها حياتي!!
كأنها قَلْتٌ من القلات
فانظر كيف يفرح الرجل بأديم جاس غليظ متغضن موات! إنه يحبه، ويحرص عليه، ويرق له، ويدلله دلالاً كأنه طفل يطفله ويرعاه. وما ذاك إلا أنها أداة يتخذها ليطفئ بها الغلة التي يؤرثها حر الظمأ، لو هو فقدها في مجاز البيداء المجدبة الظامئة، فقد معها القدرة على الحياة، ومع كل ذلك فما هي إلا أديم أصم، وأداة لا خير فيها إذا لم يكن كل الخير من قوة الساعد التي تمتد في رشاء يتطوح بين أرجاء البئر
ما أبلغه من أعرابي، لولا نقل حديثه من الدلو إلى المرأة!
(قاتلتي وملؤها حياتي!!)
إنها المرأة يا سيدي هي وحدها التي تستطيع أن تكون القاتلة المحيية في وقت واحد. إن كل ما فيها هو حياة محبها، وكلما يكون منها - إذا أرادت - هو سبب من أسباب سلب هذه