عرضتُ جوانب من قلق الآراء واضطراب الأعمال في مدنيتنا هذه، وذكرت مواطن تسرب إليها القلق وكانت جديرة أن تنجو منه؛ وبدت فيها بوادر الخلل وهي خليقة أن تنأى عنه، وذكرت الحكومات والقوانين والصحف والنساء والأسَر
والآن أفصل القول، بعد إجماله، في السبب الذي تنشأ عنه هذه العلل، والأصل الذي تتفرع منه هذه الأدواء لنعرف الدواء ونلتمس الشفاء:
لابد للنفس مما يقيمها على طريقة، ويسيرها على نهج، ويوجه رغباتها وجهة واحدة، ويجمع نزعاتها على سنة بينة. فكلما همت بأمر رأت أمامها سبيلا واضحة ولم تشتبه عليها المناهج، ولم تضطرب بها الآراء وتتجاذبها الأهواء. وكلما حزبها أمر لم تتبلد ولم تذهب شعاعا؛ بل تعمد إلى عدتها من الآراء القويمة والمذاهب المستقيمة، فتعرف ما تفعل وما تجتنب، وما تأخذ وما تدع.
والذي يقيم النفس على طريقة، ويعرفها منهجها فيما تهم به، وفيما ينزل بها، هو العقائد الراسخة، والقوانين الواضحة، عقائد الدين، وقوانين الأخلاق، وشرائع الأمة كلها. فإذا ثبتت النفسَ العقائد، وقومتها الآداب، ووضحت أمامها القوانين، خضعت أهواؤها للحق، واتفقت نزعاتها على الخير، وسارت في أعمالها على قوانين تطمئن بها، وتسكن إليها، وتحرص عليها، ولم تشتبه عليها السبل، وتنبهم أمامها الغايات.
وإن لم تئِل النفس إلى عقائد بينة، وترجع إلى مذاهب معروفة، لم تستطع السير على طريقة، ولا العمل على قانون، واضطربت في شدتها ورخائها، وحربها وسلمها، وكانت نهباً لنزعات مختلفة، وآراء متشاكسة، وتذبذبت بين دواعي الوقت وخطرات الساعة، واختلف عملها بين الحين والحين، ولم تثبت في المحن، ولم تصبر في الشدَائد، وكانت عرضة للحيرة كل آن. والحيرة هي تفرق الفكر، بل تقسم النفس، ولا يبلي الإنسان في