يذكرني مقال ابن الفارض المنشور بالرسالة ببحث جريء لي لم ير النور بعد، لأن بعض الأذهان لم تتهيأ لقبوله، وصلت فيه إلى أن التصوف نتيجة اختلاف في النفسية الجنسية للفرد. وقد اهتديت إلى هذه النتيجة من مقارنة نفسية فجر الشباب حيث فورة الجنس على أشدها وما يصحبها من حالة نفسية لا تفرق عن التصوف إلا في كونها عابرة غير مستقرة، ففي هذه الطور من التطور البشري يشعر الإنسان أنه جزء من الكون، وكل ما في الكون يردد صداه في نفسه التي تتسع لقبول ما في الكون من إنسان وحيوان وأفلاك، ويمتاز تفكير هذا الدور بالإبهام والغموض والإيثار كالتصوف تماماً
وقد وجدت في تاريخ ابن الفارض مادة دسمة لتدعيم بحثي، فقد روى أن أحدهم استأذن في شرح قصيدته (نظم السلوك) فسأله عن مقدار الشرح فقال: إنه سيقع في مجلدين. فضحك ابن الفارض وقال:(لو أردت لكتبت مجلدين لكل بيت فيها) وروى أيضاً أن محيي الدين بن عربي بعث إليه في شرح هذه القصيدة فرد عليه الشاعر: (كتابك المسمى بالفتوحات شرح لها) والكتاب المشار إليه يقع في ٣٣٠٠ صفحة من الحجم الكبير
ففي هذا القول نجد معنى الإبهام والغموض، فإن أفكار المتصوفين ليست واضحة في جوهرها، وإن الشروح المقصودة هي تخريج لمعان لم تتبلور، ونحن نعلم أن ميزة الفكر البشري هي الوضوح وسهولة التأدية، ونجد حتى في الحيوانات العجم من تحسن التفاهم مع بعضها تفاهما عجيباً فاضت لوصفه مؤلفات علماء الطبيعة، ولولا سهولة الأداء التي امتاز بها الذهن البشري لما ترقى الإنسان وصعد إلى درجات الرقي التي وصل إليها
وقد أدعو أن هذا الغموض مقصود لحفظ أسرارهم، والذي وصلت إليه هو أنه نقص في التعبير من علل نفسانية
أما عن إقحام الحب وما يتبعه من معان وصور في رياضتهم فهذا هو الجانب المحرج الذي أشرت إليه في أول هذه الكلمة؛ ومجال هذا البحث في الصحف الطبية. وفي رأيي أنه هو الباعث الأول على الغموض والإبهام