أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة التي تعرض لك من حيث لم تكن تقدر ان تلقاها كأنما كانت تكمن في بعض أنحاء الزمن، حتى إذا قربت من مكمنها خرجت عليك بما يملؤها من قوة وحدة، وبما تستطيع ان تثير نفسك من حزن عريض عميق أو أمل واسع مبتسم. فوقفتك في طريقك الزمني واضطرتك بعد وقفة قصيرة إلى أن ترجع إلى الماضي البعيد والقريب تستحضر ما كان فيه من أحداث وتحس ما ترك في نفسك من ذكرى، أو تضطرك إلى أن تثب وثبة بعيدة إلى مستقبل الأيام، فإذا أنت تشيد القصور وتتخذ من الخيال أحلاما حلوة تحبب إليك الحياة وتملأ قبلك بالصفح عما جنت عليك من السيئات.؟
أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة الخصبة التي لم تكن تقدر في وقت من الأوقات أنها ستعرض لك أو أنك ستعثر بها، ولكنك خرجت ذات يوم من دارك تسعى فيما يسعى الناس فيه من جدة الحياة وهزلها، وتبلو ما يبلو الناس في سعيهم من حلو الحياة ومرها، فإذا لحظة من هذه اللحظات قد سقطت عليك كما يسقط الجدار على الغريب الذي مر به مصادفة وهو يميل إلى السقوط. أو عنت لك ثم مثلت أمامك كما يعن الشيء النفيس لبعض المارة ثم يمثل بين أيديهم حين يصلون إليه، وإذا هم وقوف أمامه قد أخذتهم الحيرة ثم غمرهم السرور؟ أتعرف هذه اللحظات القصار المفاجئة التي يضمرها لك الغيب ويخفي عليك بوادرها وطوالعها ثم يفجأك بها على غير انتظار، كما يلقاك الرجل تعرفه أو لا تعرفه فيلقي إليك نبأ من الأنباء لا يرى له خطراً ولكنك لا تكاد تسمع له حتى يحدث في نفسك أعمق الآثار وأقواها، وأبلغها وادعاها إلى الحزن والابتئاس أو إلى الفرح والابتهاج؟
إنك تحسب هذه اللحظات حين تلقاها أو حين تلقاك قصاراً لأنك تحصيها بالدقاق والثواني، وما هي بالقصار لأنها تحمل في وعائها الضيق الضئيل من العواطف والأهواء، ومن الأمل والذكرى، ومن اللذة والألم، ما يضيق به كثير من الساعات بل كثير من الأيام. إنك تحسب هذه اللحظات مفاجئة لأنها عرضت لك أو لأنك عرضت لها على غير انتظار ولا تهيؤ منها ولا منك وما هي بالمفاجئة. فان قوى أخرى غير قوتك وغير قوتها قد عملت منذ أزمان بعيدة في تهيئتك لها وتهيئتها لك، وفي دفعك إليها ودفعها اليك، حتى التقيتما عن