للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[هذا الغروب. . .]

للأستاذ راشد رستم

شهدت غروب الشمس في كل ناحية من نواحي هذا الوادي الفسيح الممتد: رأيت الشمس من أعلى الهرم الأكبر تذهب مع ذهب الصحراء، ورأيتها تختفي وراء صفحة الماء، أو تودع حسرى خلف جبال ليبيا، أو تغيب كاسفةً وراء الأفق بين أطلال وآثار، أو تغوص في لجة الغيب تحت إشراف المنائر وأعالي الأشجار، أو تحتجب عن الأبصار وسط جمع من كثيف السحاب، أو تذوب في سماء صافية تمسحها من لوحة النهار يد الليل القاتمة، ولها في كل حال ما شاءت لها الأيام من وحشة ومن وراء.

وهؤلاء القدماء آباء هذا القطر القديم كانوا يسيرون، هادئين طائعين، مع الشمس حتى الغروب: كم أعطتهم حياة وحرارة! وكم أمدتهم بأسباب الخلود في الجلمود! وهم اليوم قد غابوا عنها. أما هي فما غابت عنهم ولن تغيب عنا وإنما يأتي اليوم الذي نغيب نحن فيه كما غابوا وكما تلقيناها نحن عن الأجداد سيتلقاها عنا الأحفاد.

وهذه الشمس المانحة، تسير عبر الوادي سابخة، كما كانوا يقولون، تقبل عليهم نياما وتتركهم أيقاظا، تمنهحم بهجة النهار، وتنزل عليهم سكينة الليل، ولكنها بين ذلك قد تأتيهم وقت الغروب بالوحشة ذات الخفايا والظلمات، حتى ليظنون في يقين أن هذا الغروب وداع للنور وتسليم بظلمة الوجود.

ينقطعون عن الحي الصاخب المتحرك، ويدخلون البيوت الهادئة الساكنة كأنهم يدخلون القبور، وفي السكون مع الهدوء تنشأ الحركات - ولكنهم يتركون الفضاء الواسع والنجم الساطع ويخضعون لكابوس الليل الزائل، يسيرون بالركب وئيدا مستسلمين، يضمهم وينضمون إليه وهم فيه صامتون، إلا ما كان أمراً لصارخ بالسكوت، أو زجراً لسريع بالهدوء، أو همساً لآمل باليأس الممقوت. . .

أما أنا فما ساءني غروب في هذا الوادي الخصيب، بل دلني كل غروب، في اختلاف حالاته، على انه حركة تتلوها حركات، وانه علامة للفصل، تنبئ عن وجه جديد بشروق جديد، في نور جديد بأمل جديد. . وهكذا حييت مع هذا الفاصل، متصلا دائما بالأمل الجديد. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>