مهما يكن من حرصي على ألا أدخل في حديث يدور لي أو علي، فإني لا أجيز لنفسي بعد ما قرأت في (أخبار اليوم) تحيتك الكريمة أن أدعها تمر دون أن أتقبلها بالغبطة وأردّها مع الشكر.
تفضلت فرشحتني لكرسي شوقي في كلية الآداب من جامعة فؤاد، وأيدت ترشيحك بحسن ظنك بي وجميل رأيك في. وليس الترشيح في ذاته هو الذي هيأ نفسي للكلام وحرك يدي بالكتابة؛ فإنك تعلم من نفسك ومن تجاربك أن الترشيح لمثل هذه المناصب تتنازعه عوامل مختلفة من المنصب إلى المال والمجد ومن لهما يستحق، ولا ينظرون فيه إلى الفضل والكفاية ومن بهما يتصف. وإني أعلم من نفسي ومن طبعي أنني لا أقبل هذا الكرسي وإن ذُللت عقابه وسهِّلت صعابه؛ لأني أفضل أن أظل بقية حياتي كما كنت جنديَّا متطوعاً في القوة الخفيفة من قوى الأدب العربي: أرود وأنتجع وأكتشف من غير نظام أتبعه ولا قائد أطيعه ولا جزاء أبتغيه. . . ولقد عرض علىَّ في العام الماضي عميد كلية الآداب السابق أن أكون أستاذاً زائراً في الكلية، فقلت له والأسى يهدج صوتي ويقطَّع كلامي: شكراً يا صديقي وعذراً! لقد تقدمت السن وتأخرت الصحة وأوشك الماخر في عباب الحياة أن يبلغ الساحل! وماذا تبتغى من عامل مكدود أدرك سن المعاش، أو من فرس مجهود قارب نهاية الشوط؟ إن من حق ذلك أن يسترقه، ومن حق هذا أن يستجم. وما على الجواد من بأس إذا أخطاءه الرهان بعد أن جرى مِلء فروجه وبذل غاية جهده حتى بلغ ما بلغ من غير سوط يحث ولا حقنة تثير ولا حيلة تساعد. ولكن صديقي ألح في العرض وألححت في الرفض ووقف الأمر بيني وبينه عند ذلك.
فالموضوع إذن يا صديقي أهون على من قطرة المداد التي تسيل بالحديث عنه، وإنما هيأ نفسي للكلام وحرك يدي بالكتابة تلك الروح الطيبة التي أملت عليك ما كتبت؛ فإن كلمة الخير من أديب في أديب، أو شهادة الحق من عالم في عالم، لم يسجلها تاريخ الأدب إلا في باب النوادر! ولعلك تذكر أننا تشاكينا مرة داء الضرائر بين الأدباء فقلت لك: لا أدرى لماذا يظن الكاتب أو الشاعر أو الفنان أن الأرض لا تتسع إلا له، وأن الناس لا يقبلون إلا منه، وهو يعلم علم اليقين أن الأدب ألوان وطعوم، وأن الذوق أشتات ودرجات، وأن مثل الأدباء والفنانين في العصر الواحد والبلد الواحد كمثل الجوقة الموسيقية تؤلف بأصواتها المتنوعة