اقترحت على الإذاعة أن أتحدث الليلة عن الربيع في الشعر المصري؛ وفي هذا الاقتراح وئام وانسجام مع (شم النسيم)؛ فأن الذين قضوا يومه البهيج المرح على بساط الربيع، يجتلون جمال الطبيعة المتبرجة في الزهر والنهر، ويستوعبون أسرار الحياة المنبثة في السماء والأرض، يسرهم أن يسمعوا تعبير الشعر عما شهدوه من جمال النيل، وأحسوه من فتنة واديه، ولم يستطيعوا الهتاف به ولا التعبير عنه. وما كان أحب إلى نفسي أن أهيئ لهم هذا السرور لو وجدت السبيل إليه؛ فإني قرأت ما نظم الشعراء المصريون قدماؤهم ومحدثوهم في الربيع المصري، فلم أجد فيه على قلته وتبعيته صدقا في الشعور ولا مطابقة للواقع. قرأت ما قال أبن وكيع التنيسي، وابن سناء الملك، وأبن الساعاتي، وأبن نباته، والشاب الظريف، وأبن مطروح، والبهاء زهير، من نوابغ المتقدمين؛ ثم قرأت ما قال شيوخ الشعر وشبابه من صفوة المتأخرين، فلم أجد إلا كلاما عاما يقال في كل ربيع، ووصفا مجملا يصدق على كل روضة! تعبيرات محفوظة من لغة الشعر، وتشبيهات منقولة من موروث البيان، صاغها كل شاعر على حسب طاقته وآلته، فجاءت وصفا لربيع مجهول لا حقيقة له في الخارج، ولا أثر له في الذهن. أما الشعور النفسي الذي يدرك الشاعر الأصيل في جو معين ومنظر محدود وزهرة خاصة، فيصل به بين النفس والطبيعة، وبين الفكر والصورة، وبين الفن والواقع فذلك ما لا أثر له فيه. ولعلك إذا استثنيت من أشعار العرب في الربيع، شعر أبن الرومي في العراق، وشعر البحتري في الشام، وشعر أبن خفاجة في الأندلس، وجدت سائرها من هذا النمط المصري الذي تجد فيه الألفاظ المبهمة، ولا تجد فيه المعاني الملهمة. فأشعارهم في الربيع أشبه بأشعارهم في الغزل، أقلها نفسي صادق يصدر عن القلب وينقل عن الوجدان؛ وأكثرها حسي كاذب يصدر عن الحافظة وينقل عن الكتاب. والمصريون أولى من غيرهم بالعذر إذا خلا شعرهم من وحي الربيع؛ لأن الربيع الذي يزور الأرض في أبريل ومايو، لا يزور مصر إلا في أكتوبر ونوفمبر. فالخريف في مصر هو الربيع الحق في نضرته وزينته وعطره. فأينما تدر بصرك في حقول الذرة وقصب السكر والبرسيم، لا تجد إلا رياضاً شجرا من شراب وحب، ومروجا فيحاء من زهور وكلأ. ثم ترى النيل في أعقاب فيضانه كذوب التبر ينساب هادرا في الترع والقنوات، فيجعل من ضفاف الجداول، وحفافي الطرق،