أما الفرزدق فهو كالأخطل في الذؤابة من قومه، إلا أنه كان صريح العداوة فلا يوارى، فاحش الدعابة فلا يحتشم، شديد الدعارة فلا يتعفف، حاد البادرة فلا يتلطف؛ فهو في هجائه يذكر العورات ويعلن المخزيات بألفاظها العارية وأسمائها الصريحة حتى ليستحي الشاب أن ينشدها، بله الفتاة الخفرة.
وما أظن البداوة وضيق الخلق وسلاطة اللسان وفجور النفس هي كل الأسباب التي أوجدت هذا الهجاء السوقي الوقح، فإن الحطيئة ومن سبقه على اتصافهم بهذه الأوصاف لم يسفوا هذا الإسفاف، فلابد أن يكون لحياة العراق في ذلك العهد أثر قوي في ذلك: فالخلق العربي القوي قد وهت أواصره باتصال البدو بالحضر واختلاط العرب يالعجم، والوازع الديني قد ضعف بتغلب الأحزاب وضعف العصبية، والسلطان السياسي يغمض جفنيه ويضحك ملئ شدقيه من هذه المهازل التي يمثلها الشعراء والقبائل بالبصرة. أقول القبائل لأن القبيلة كانت من وراء شاعرها تحتال لانتصاره بالمال والقتال والدعاية، وربما أتى كل رجل منهم بالبيتين والثلاثة فيرفد بها الشاعر كما فعلت تيم في مهاجاة شاعرها عمر بن لجأ لجرير. وكان أحش الهجاء هجاء الفرزدق في جرير، فهو يرمي قومه بضعة النسب، وضعف الحيلة، واتخاذ الغنم، ورعي الإبل، وإتيان الأتن، ويفتن في هذه المعاني افتنانا عجيبا: يرددها في كل قصيدة على صور مختلفة وأساليب شتى، ولا يتحرج أحيانا من افتعال الحوادث المضحكة إمعانا في السخر من المهجو والنيل منه
وهذا غاية ما وصل إليه الهجاؤون وأهل التنادر في عصور الترف والخلاعة. وأدهى من ذلك أن يقذف خصمه بنوع من السباب الدنيء الذي لا يعتقده ولا يصدقه الناس، إنما يعمد إليه مبالغة في التحقير والتشهير على نحو ما يعمل الرعاع في الطبقات الوضيعة، وذلك ما لم نعهده في الهجاء من قبل، إذ كان الشاعر يرى جهة المحاسن في المريء فيمدح، أو جهة المساوئ فيه فيذم، وهو في كلتا الحالتين صادق
وقد يتدلى الفرزدق في الهجاء إلى الدرك الذي لا تسيغه رجولة، فينقض رثاء جرير