للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[بطولة محمد]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لا أعرف - ولا أحسب أن غيري يعرف ما يشبه - أو يقارب - بطولة محمد صلى الله عليه وسلم. ولست أنسى أني مسلم ولكني مسلم بالعقل قبل أن أكون مسلماً بالوراثة والنشأة. ولست أخشى أن أتهم بالتعصب لصاحب هذا الدين. على أني لا أعني بالبطولة الشجاعة في الحرب، والجرأة في الكر والفر، والإقدام على مقارعة أحلاس القتال ومنازلة الأعداء في حومات الوغى، فما كان صلى الله عليه وسلم يعني بالاشتراك في القتال بسيف أو رمح؛ وكان يشهد المعارك ويصحب رجاله ولكنه لا ينزل إلى الحومة بنفسه ولا يخوض المعمعة مع أنصاره وإن كان يوجههم. وما كانت مزيته أنه أطعن الناس برمح، أو أسدهم ساعداً، وإنما كان نبياً وصاحب دعوة، ورسولاً بدين، ومعلماً ومرشداً وهادياً، وحسب من شاء أن يقدر بطولة محمد أن يتأمل حياته وسيرته لا في مكة وحدها بل بعد الهجرة منها إلى المدينة أيضاً وإلى آخر حياته، فقد جاء بدين ينقض كل ما قامت عليه حياة العرب في زمانه من عقائد وتقاليد وعادات وآراء؛ ولا يرضى حتى أهله، لأنه يحرمهم مزاياهم وما كانوا ينعمون به من عزة في الجاهلية؛ ولم يجد من يؤمن به وبرسالته إلا قلة لا غناء لها، ولقي من الضيم والعذاب والأذى والمطاردة والاضطهاد، ما لم نعهد في البشر إطاقته والصبر عليه؛ وحوصر في الشعب ثلاث سنين بلا أمل أو نصير؛ وقاسي من المحن أقسى ما يخطر على البال؛ ومع ذلك لم يلن ولم يضعف، ولم يكد يخرج من هذا الشَّعب حتى مضى وحده وبمفرده إلى الطائف يدعو إلى ترك الأوثان وإلى عبادة الواحد الأحد، فلم يقابل بغير الإهانة والزراية من الكبراء، والرمي بالحجارة من الصبية والجهال، حتى سال منه الدم فعاد إلى مكة لا يأساً بل مواصلاً بث دعوته وتبليغ رسالته، وظل صابراً مواظباً محتملاً ما يلقي في سبيل الله من الأذى البليغ والعنت الشديد ثلاثة عشر عاماً من يوم تلقي الوحي. ولما اعتزم الهجرة بعد أن مهد لها لم يخرج إلا بعد أن رحل عن مكة معظم أنصاره وأمن واطمأن عليهم، ووثق بنجاتهم وسلامتهم، وهذا ثبات كان خليقاً وحده أن يقنع الذين كتبوا عنه من الأجانب بأنه لا يمكن ولا يعقل أن يكون من (دجال) كما وصفه بعضهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>