قد يذكر القراء أني كتبت غداة انهيار فرنسا وسقوط باريس في قبضة الألمان سنة ١٩٤٠ في عددي ١٢ - ٨ - ١٩٤٠ و ٢ - ٩ - ١٩٤٠ من هذه المجلة مقالين أندد فيهما بذلك الموقف الشاذ الذي وقفه بعض كتاب مصر والشرق العربي يبكون فرنسا بدمع غزير وعاطفة حارة ناسين أن فرنسا أشد أمم الاستعمار تعصباً على العرب والمسلمين ونكاية بمن وقع منهم في يدها وتحت سلطانها، وأنها كانت أعظم عائق في طريق المفاوضين المصريين في مؤتمر (مونترو) لإلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر، وأنها كانت آخر دولة تنازلت عن دفع فوائد الدين المصري بالذهب في الأزمة التي وقعت بهذا الخصوص، وأنها كانت أشد الأمم احتياطاً وتشدداً في ضمان الحرية للمعاهد الأجنبية في مصر.
وقد يذكرون أيضاً أن هذين المقالين كانا سبباً في أن يمنع ممثل فرنسا في سوريا ولبنان في ذلك الوقت دخول (الرسالة) إلى هذين القطرين الشقيقين برغم أن الرسالة أفسحت صدرها لمن ردوا على رأيي منتصرين لفرنسا ومدافعين عن ميراثها الثقافي وروحها كما تراءى لهم. وكان منهم الدكتور زكي مبارك.
وقد بعثت إلى الرسالة بمقالين آخرين لم ينشروا حينذاك تمهيداً لعقد هدنة بين ممثل فرنسا ولبنان وبين الرسالة.
وقد ضاع المقالان ولم يبقى لدى مهما إلا مسودات سأحاول الآن جمع ما تفرق من المعاني فيهما لأن الظروف قد صدقت رأيي في فرنسا، وجلبت عليها عداوة كثير من أقلام عربية وغير عربية من جراء تخبط سياستها ورجالها، ومن جراء تلك الروح الوحشية البربرية الرجعية الحمقاء التي تزاول بها سياستها مع شعوب العالم العربي، ومن جراء ذلك التخلف الذهني يبلغ درجة الانحطاط عن مستوى الروح العالمي الإنساني الذي يغمر قلوب بعض الأوصياء على الحضارة، على الأقل في مظاهر الخداع والإرضاء ومحاولة الوصول إلى الأهداف من طرق ملتوية ولكنها سليمة.
وما أظن أحداً من أذناب فرنسا في مصر يستطيع أن يرفع رأسه ويحرك قلمه الآن للدفاع