هناك نوعان من التفكير المذهبي: تفكير تفسيري، وآخر إنشائي. فالمؤرخ الذي يحاول تفسير التاريخ وتطوره وفقاً لفكرة موحدة جامعة، يفكر تفكيراً مذهبياً، فيقول مثلاً: إن تغير وسائل الإنتاج وحلول الآلة محل الأيدي قد غير من توزيع الطبقات الاجتماعية ونقل عقلية الشعوب، وهذا هو التفكير التفسيري. والسياسي الذي يقول بوجوب فصل السلطات الثلاث تنفيذية وتشريعية وقضائية وتحديد علاقاتها بحيث لا تبغي سلطة على أخرى، ويرى في ذلك ضماناً لصلاح الحكم، يفكر تفكيراً إنشائياً ويدعو إلى المذهب الذي يؤمن به
ولقد كنت دائماً شديد الحذر من التفكير المذهبي في مجال التفسير لما لاحظته من أن المذهب عندئذ لا يمكن أن يفلت من الضيق والتحكم. فالمؤرخ في مثلنا السابق لابد متعسف في عرضه، والناظر الحر التفكير لا يمكن أن ينكر أن تغير وسائل الإنتاج لم يكن بحال العامل الوحيد في تطور الإنسانية؛ فثمة النشاط العقلي وتوليد الأفكار وإرادة البشر ونزوعهم إلى المثل وظهور كبار القادة، وما إلى ذلك مما يعمل في التاريخ قدر ما تعمل وسائل الإنتاج أن لم يفقها.
وأنا على العكس من ذلك شديد الحماسة للتفكير المذهبي في مجال الإنشاء والدعوة، ولقد زادني إيماناً بهذا النوع من التفكير ما ألاحظ اليوم من تشتت الأخلاق السياسية والاجتماعية بمصر، وأخشى أن يكون بالشرق كله تشتتاً يملأ النفس حزناً، حتى ليصبح بالقلب أمل أننا قد نستطيع علاج هذا المرض النفسي المدمر إذا حاولنا جمع النفوس حول الأفكار المذهبية
وأنا بعد لا أجهل ما في المذاهب الإنشائية بالنسبة لبلادنا من مشقات وأخطار، فنحن بعد لازلنا بظاهر الحضارة نقرع أبوابها، وجانب كبير من حياتنا لا يزال محاكاة لحياة الغرب. وما يستطيع عاقل أن يقول أننا قد وصلنا من النضوج إلى حد الأصالة. وموضع الخطر هو أن نحسب مذاهب الغرب كما هي صالحة لبلادنا مضمونة النجاح فيها. ثم إن كل تفكير إنشائي لابد مصطدم بالكثير من حقائق الواقع عندما تستجيب له النفوس فتأخذ في تطبيقه. وهنا تظهر الصعوبات، إذ ترى النفوس متعصبة لما تؤمن به، وشهوة الفكر لا تقل عنفاً عن شهوة الحس، ويأتي الواقع فيستعصي، وإذا بالتنافر في العمل وتبلبل الحياة العامة.