دخل علينا أمس، وكنا جماعة في المجلس صديق لنا، فقال: إن ابنة الأستاذ حبيب زحلاوي قد سقطت من الطبقة السادسة إلى الشارع! فارتعنا جميعاً، وأعظمنا الخطب، وكنا نعرفها طفلة حلوة ملء إهابها الطهر والجمال والنشاط، فلم نستطع أن نتصورها وهي ممزق من اللحم قد اختلط بعضه ببعض، ووجمنا وكانت سكتة لم يقطعها إلا ضحك صديقنا المخبر، فعرفنا أنها مزحة ثقيلة من مزحاته، وأقبلنا عليه نسبه ونشتمه، فقال: والله ما كذبت عليكم، ولقد وقعت من الطبقة السادسة ولكنها لم تصب بشيء، وهي سليمة. . .
فصرخنا جميعاً: سليمة؟! قال: نعم والله. ألا تصدقون؟ إنها وقعت على حبال الغسيل الممدودة بين الشرفتين حيال الطبقة الخامسة، فعاقتها قليلاً، ونفذت منها إلى حبال الطبقة الرابعة، وما زالت تمر من حبال إلى حبال، حتى إذا بلغت الشارع، كانت سقطتها على كومة من الرمال، صبتها سيارة صباح ذلك اليوم، فلم تصب بأذى.
ومضى يحلف ويذكر الإيمان أن الذي يرويه هو الصدق والحق، وأن صبياً لصديق آخر لا أسميه لئلا أسوءه، وأذكره بمصابه، وقف على مكتب أبيه يلعب، فرأى صورة معلقة بالجدار، فوثب يريد أن يصل إليها، فوقع على أرض الغرفة، وكانت من البلاط، وكانت السقطة على يافوخه، فمات لساعته. . .
وقال معلقاً ومفلسفاً: ففيم إذن نفكر وندبر، مادام لا ينفعنا فكر ولا يفيدنا تدبير، ولم لا ندع الأمور للقدر ونتركها تجري في أعنتها كما يريد لها مجريها، مادمنا لا نملك أنفسنا ولا نعرف مصائرنا، ومادام هذا الكون كالمعمل الضخم، المشتبك الآلات، المتعدد الحركات، وما نحن إلا مسمار صغير فيه، نسير كما يسيرنا (مهندسه) الأعظم. . .
وأسرع واحد منا، فقال مصدقاً: نعم، ولكنا خلقنا للشقاء، وأقمنا هدفاً للمصائب، ووضعنا في دنيا ما فيها إلا الآلام من سلم منها السوم وقع غداً، ولم يمت ولده من سقطته مات من علته، أو مات وهو صحيح معافى ما من الموت بد. . . ولابد قبل الموت من البلايا والمتاعب. . .