ما أشبه بني آدم بنبات الأرض! يتفق في التربة والغذاء والجو، ويختلف في اللون والطعم والمزية. في الحقل الواحد تجد الطيب والخبيث، الحلو والمر، والنافع والضار، والصلب والهش، والمستقيم والمعوج، والمثمر والعقيم، وهذا الاتفاق وذلك الاختلاف تجدهما في بني الإنسان على أوضح صورة. ها نحن أولاء، طينتنا من ثرى الوادي، وغذاؤنا من خير النيل، وهواؤنا من جو مصر؛ ولكن فينا من يؤلم ولا يلذ كالعوسج، ومن يروق ولا يثمر كالصفصاف، ومن يضر ولا ينفع كالهالوك، ومن يرتفع ولا يستحق كالعليق. أما المصطفون الأخيار فهم كالفواكه والرياحين قلة قليلة. . منا العيون التي تتجسس للعدو، والأيدي التي تعمل مع العدو، والألسن التي تدعو إلى العدو. ومنا الأوغاد الذين يقضون أيامهم اللاهية عكَّفا على الفحش يتفقون أموالهم التي استقروها من عرق الفلاح ودمه، في الخمر والقمر والنساء، وأبناؤنا الشباب يقاتلون العدو وجها لوجه وهم جياع! ومنا الأنذال الذين كسبوا المال وخسروا الشرف، وشروا الجاه وباعوا الضمير، فظلموا بيننا تماثيل للؤم والبلادة، يسمعون عن فظائع الإنجليز في القنال، وعن فجائع الفدائيين في القتال، وكأن القنال ليس من أرض الوطن، وكأن الفدائيين ليسوا من شباب الأمة! أما البررة الأطهار فهم صفوة الخير المغلوب بين هذا الشر الغالب! هم أولئك الشباب الجامعيون الذين نذروا دماءهم الزكية لله ولمصر. يقتلون مستبسلين، ويقتلون مستشهدين، لا يبغون عَرض الحياة لأنهم يستقبلون وجه الموت، ولا يطمعون في جزاء الدنيا لأنهم يقنعون بثواب الآخرة.
هم أولئك المترفون الذين ربأوا بوطنهم أن يحتل، وبشعبهم أن يذل، فزهدوا في نعيم العيش، ورغبوا عن سلام الأمن، وعاشوا مع الفلاحين في قرى القنال، يطعمون أغلظ الطعام، ويشربوا أكدر الشراب، ويفرشون أخشن الفراش، ويستعيضون عن العطور والدهن بالشحم يطلون به أجسادهم المرهفة ليقيها برد الماء وقر الشتاء، ثم يكمنون للعدو الباغي عراة في قنوات الحقول وأخاديد الأرض؛ حتى إذا شاء القدر أن يسخر من الإمبراطورية العجوز، ساق قطيعها من أغنامها الحمر إلى المجزرة الفدائية الجائعة، فيلقى الإيمان والكفر، والشجاعة والجبن والفداء والأثرة؛ وتغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بأذن الله، فيفزع (أرسكين)، وبجزع (تشرشل)، وتسيل شوارع المدن ومسالك القرى بالدبابات والمصفحات والجنود؛ ثم تكون عاقبة هذا الجيش العرمرم والعتاد الضخم هزيمة مخزية