تفتحت أبواب السماء بغيث منهمر استمر ليلة من (تلك) الليالي طولها عشرة آلاف سنة، فأغرق البحر وابتلع البر، ومدْ أصابعه من خلال التراب وادخلها من شقوق الأرض حتى بلغ (بردى) وهو (جنين) في بطن أمه الأرض، تطيف به أحشاء لينة من جَلمَد الصخر، تحنو عليه وتغذيه، فغمره بالماء حتى ضاق به مكانه، وامتد البلل إلى عظامه فخرج. . .
وكانت الشمس قد طلعت على الأرض بعد (تلك) الليلة تمنحها الدفء وتغمرها بالنور، و (تحدّد) فيها مملكة البر والبحر بعد أن كانت بحراً كلها؛ فوقف (الوليد) ينظر مشدوهاً فيرى سهلاً أفيح جميلاً تحيط به جبال يتهن شبابا ويمس جمالاً، ولكنه عارٍ اجرد، فآلمه عريه وتجرّده، وود لو سعى في أرجائه يزرع فيه الحياة ويضع في تلك السفوح (بذور) المدن والقرى. ولكنه كان ضعيفاً (فلم يستطع أن يمشي)، وتصرم النهار وهو جاثم مكانه لا هو قادر على الرجوع إلى بطن أمه، ولا هو قادر على السير، وأوحشه سكون الليل وظلامه، ولم يعطف عليه الجبل ولا سامره السهل، فلبث وحيداً حتى جاءت فتاة من بنات (الدَّلْب) كانت قد سمعت به فأحبت أن تراه، فلما أبصرته عشقته وحنت عليه، وأضجعته على ركبتيها (تهمس) في أذنيه، أحاديث المدن البعيدة الحلوة والأودية المسحورة. . . حتى نام!
ومرت أيام نما فيها الوليد، فغدا (صبيا) يمشي في السهل، ثم شب فصار (فتى) قويَّا، (يعدو) نحو الوادي عدواً. . .
راع ظهوره أهل تلك الديار فأعرضوا عنه بادي الرأي، ثم مالوا إليه فأحبوه، واتخذوا مولده عيداً، فنشر له السهل أعلامه الخضر، وجمع له باقات الزهر، وفرش له الجبل سفوحه، وزّينها بالورد، وملكوه عليهم. . .
وكان (بردى) الشاب، طموحاً عالي الهمة، فلم يقنع بملك ذلك السهل، سهل الزبداني، ولم يكفه أن خضعت له جبال مضايا وبلدون، وأبى إلا أن يخرج فاتحاً لا يقف حتى يملك الوادي كله، فحشد عسكره، ودخل الوادي بطبوله وراياته يثب على الصخر وثباً، ينشد أنشودته (الهادرة)، ولم يكن في الوادي إلا أميرات صغيرات، ملكهن صخرة يخرجن من