أما شاعرية البارودي فقد قدمت لك أنها صياغة عصورٍ غابرة، ووليدة بيئات منقرضة، إذ لم يسبق بنهضة أدبية نما فيها ذوقه العربي، ولم ينشأ في بيئة عربية ترعرع فيها فنه البياني؛ بل كان هو باعث تلك النهضة بعد أن لم تكن، ومطلع ذلك النور بعد أن خبا، والمجلي في حلبة البيان الذي لم يسبقه أحد قبله وجاء على أثره من بعده، ومكون تلك البيئة بعد أن كانت مصر قبله وفي صدرٍ من عهده ممحلةً من الأدب والأدباء والشعر والشعراء إلا القليل ممن لا يعتد بشعرهم، ولا ينبغي أن تسجل أسماؤهم في الشعراء إلا تسجيلا تاريخياً لمن أراد أن يكتب سجلا جامعاً، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها
إلا أن تلك النهضة التي بعثها من مرقدها لم تكن نهضة تجديدية في الأفكار والمعاني؛ وتلك الوثبة التي وثبها لم تكن وثبةً انقلابية في تصوير ما حوله من المشاعر والاحساسات؛ وهذه الخطوة التي خطاها لم تكن خطوة تطويرية في مسايرة روح العصر وتوجيهه إلى ما يريده الشاعر لأمته وبلاده من المثل الأعلى في الآمال والأغراض، بل كانت نهضةً بيانية لا أكثر، متعلقة بجودة العبارات، واختيار الألفاظ، وإحكام النسج، ومتانة التركيب، والجري على مذهب القدماء في الفخامة والجزالة؛ فلا تكاد ترىفي شعره ما يعبر عما حوله من أحاسيس أمته وأوطانه، إلا القليل مما تراه منتثرا في ديوانه؛ وسبب ذلك يرجع إلى أن شاعريته كما قدمت لك من صياغة الكتب والدواوين، وصناعة هؤلاء الشعراء المتقدمين؛ فكان يعيش بشعره في عصرٍ غير عصره، وكان أشبه بالعاشق الموله الذي يجالس القوم بجثمانه، ويكلمهم بلسانه، وهو مع معشوقه وسالب لبه بروحه ووجدانه
وهنا ينبغي أن نشير إلى مخالفتنا لما رآه بعض كتاب النقد في شعر البارودي، فقد قسم الشعر إلى أربعة أقسام، وهي شعر التقليد الضعيف، وشعر التقليد القوي، وشعر الابتكار