للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الذي يوحيه الشعور بالحرية القومية، وشعر الابتكار الذي يوحيه الشعور بالحرية الفردية؛ وذكر أن شعر البارودي في طليعة النوع الثالث، وهو شعر الابتكار الذي يوحيه الشعور بالحرية القومية

وعندي أن شعره لا يعدو من هذه الأنواع الأربعة، وهو شعر التقليد القوي؛ وهذا هو سر شغفه بمحاكاة الفحول من شعراء المتقدمين ومعارضتهم في مشهورات قصائدهم كأبي نواس، والشريف الرضي، وأبي فراس، والبويسيري، وغيرهم؛ وفي رأيي أنه لم يبلغ أحدا من هؤلاء، وإن كان قد قاربهم بعض المقاربة، وذلك لأنه مقلد، والتقليد كما تحدثت إليك من قبل أضعف من الأصل مهما يبالغ المقلد في إحكام المشابهة وإتقان المحاكاة. وإنك لتقرأ القصيدة من شعره فلا توقظ عاطفة من عواطفك، ولا تحرك شجناً من أشجان نفسك، ويخيل لك أنك سمعتهاقبل عدة مرات؛ والحق أنك قد سمعتها، فإن لم تكن قد سمعتها بالفاظها، فقد سمعتها بمعانيها في شعر العباسيين وغيرهم من المتقدمين؛ حتى أن قصائده التي قالها في صفة الحروب وأهوالها، والميادين وأبطالها، وافتخاره بالإقدام إذا حمي الوطيس واشتد الخوف وجاشت نفس الجبان لا تراها تتميز إلا في القليل النادر بمعان جديدة وأفكار مستحدثة عن شعر المتقدمين في صفة ذلك، حتى إنك لو لم تعرف أن قائل هذا الشعر هو البارودي لحسبت أنه شاعر عباسي يصف إحدى غزوات الرشيد أو المأمون في خراسان أو بلاد الروم. وإلا فأي جديد مستحدث يلفت ذهنك إليه، ويجتذب قلبك نحوه، تراه في قوله:

فلا جوَّ إلا سمهريُّ وقاضِبٌ ... ولا أرضَ إلا شَّمري وسابحُ

ترانا بها كالأسد نرصُد غارةً ... يطير بها فنق من الصبح لامحُ

فلست ترى إلا كماةً بواسلا ... وجُردا تخوض الموت وهي ضوابح

نُغير على الأبطال والصبح باسمٌ ... ونأوي إلى الأدغال والليلُ جانح

بكى صاحبي لما رأى الحرب أقبلت ... بأنيابها واليوم أعبر كالح

ولم يك مبكاه لخوف وإنما ... توهم أني في الكريهة طائح

فقال اتئد قبل الصِّيال ولا تكن ... لنفسك حربا إنني لك ناصح

ألم تر معقود الدخان كأنما ... على عاتق الجوزاء منه سرائح

<<  <  ج:
ص:  >  >>