للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اللغة والقوالب الموروثة]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كنت ذات يوم أكتب رسالة إلى صديق فجرى القلم بهذه العبارة المألوفة: (ومما زاد الطين بلة. . .) وهممت بأن أمضي في الكتابة ثم رددت نفسي وألقيت القلم ونهضت إلى الشرفة ورحت أدخن وأنظر إلى الناس. ولكن النظر إلى الناس لم يكن همي ولا كان كل شغلاني؛ فقد كنت أحادث نفسي وأحاورها وأقول لها إن عبارة (زاد الطين بلة) ليست هي الوحيدة التي ورثناها في جملة ما ورثنا من لغتنا وقد صارت على الأيام (كليشيها) أو قالبا مصبوبا نستعمله في الحديث والكتابة من غير أن نفكر في الصورة التي يرسمها هذا (الكليشيه) الموروث الذي يغرينا به أن الجري على العادة أسهل وأقل عناء. وقد نبتت هذه العبارات المورثة في زمان كان زمانها - أعني أنها كانت في الزمن الذي أخرجها وثيقة الصلة بمظاهر الحياة، وكانت تحدث في ذهن مستعملها صورة تحصل بلا عناء وترتسم بغير جهد. ولكنها الآن قد امتد بها العمر إلى زمان آخر مختلف جدا ولم تبق لها تلك الصلة القديمة بحياة العصر ولسنا نحس حين نستعملها أنها ترسم لنا صورة ما.

وسألت نفسي: (وهل ثم ضرر من استعمال هذه القوالب المورثة؟) وهززت كتفي ومططت بوزي - فعل المتردد الذي يحاول أن يهتدي أو أن يتقي التورط في رأي يجزم به. وبدا لي - وأنا أفكر في هذا السؤال - أن الضرر لا يجئ من استعمال هذه القوالب، بل من الاقتصار على استعمالها، أي دون العناية بجعل لغتنا صورة لحياتنا. وأحسب أن لابد من اتخاذ هذه القوالب إلى حد ما. وكل لغة قديمة - ولاسيما إذا كانت قد ركدت زمنا ما - تصبح عبارة عن مجموعة من القوالب، ولكن اللغة الحية لا تزال تتسع بما يدخل فيها ويضاف إليها من العصور التي تتعاقب عليها. وحياة اللغة مستفادة من حياة أهلها ولا ذنب لها إذا جمدت وإنما يكون الذنب لهم: فإذا رأيت أناسا من أبناء عصر حديث له مظاهر حياة جديدة يكتبون بلغة قديمة في قوالبها - أي كالتي كان يكتب بها من سبقوهم بعشرة قرون أو عشرين قرنا بلا اختلاف ومن غير أن يحدثوا فيها جديدا يدل على أنهم تأثروا بعصرهم - إذا رأيت ذلك فاعلم أن هؤلاء أناس متخلفون وأنهم أشبه بالآثار الباقية منهم بالأحياء، وأن الأدب واللغة لا يكسبان شيئا بهم سوى زيادة الجمود إذا كان هذا مكسبا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>