للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

بيت الذكريات

للأستاذ غائب طعمة فرمان

خمسة عشرة سنة مرت وهو بعيد عن وطنه؛ يعاني آلام الغربة، ويكافح أعياء الحياة، ويتلمس الطريق إلىمستقبل جميل.

خمسة عشرة سنة لقي فيها أشد العناء، وقاسا ضروباً من الفاقة والعسر وثقلت على عاتقه تكاليف العيش. . . واليوم يرجع إلىوطنه بعد الكفاح المضني، والفراق الطويل، وقد أمحى من عينيه إئتلاق الشباب، وتحولت صباحة وجهه إلىجهامة منكره، وذبول حزين. . . فقد حطم خمسا وثلاثين سلسلة من السلاسل التي تربطه بالوجود، وأخذ يترقب الانحدار إلىالجانب الثاني من تل الحياة ليستقبل السلام الأبدي في قراره الوادي السحيق! فلاح الإجهاد على محياه، وغشيه موج من الحزن عميق.

الآن يرجع إلىوطنه، ويستقبل هذا الشارع الضيق الذي يعرفه حق المعرفة، وتصدمه رائحة العفونة المنبعثة من أكوام الأقذار، وتملأ عيناه منظر الأحجار التي ما زالت قائمة بها يد الإنسان، ولم تنل منها صروف خمس عشرة سنة!

يا للعجب!. . ويا لمرارة الذكرى!. . خمس عشرة سنة ما أحفلها بالأحداث والغير، وما أثرعها بالشجون والغصص، وما أكثر ما غيرت منه، وما جارت على بنيانه الإنساني! ونقلته من حال إلىحال. ولكن الشارع ما زال كما عهده لم يتغير منه أي شيء! إنه ليتذكر كل شيء فيه كأنما غادره أمس. . رحل عند إغفاءة النهار في أحضان الليل، ورجع في يقظة الليل على ترانيم الفجر! فإن صور الليلة التي غادر فيها موطنه ما زالت مرتسمة في صفحة مخيلته، وما زالت ظلالها الحية عالقة في ذهنه. وإنه ليتذكر أمه وهي تتشنج لتعبر عن عاطفتها الحبيسة، وتضطرب شفتاها كورقتين ذابلتين، وتشرق عيناها بالدموع وهو بين ذراعيها مخنوق بالعبرة، ذاهل الفكر، مسلوب الإرادة. وكان الطريق - إذ ذاك - متوشحا رداء الغروب كأنه يحس بلوعة القلوب الواجفة!. .

واليوم يرجع إلىأهله، ونفسه مفعمة بالحزن الكظيم، وبمشاعر لا يتبينها في منظار ضميره، وفي عين وجدانه. ولكنه يضرب برجليه في تراب الطريق الحائل اللون، ويتعثر

<<  <  ج:
ص:  >  >>