كانت السفينة التي كنا نعبر بها المحيط إلى أمريكا فوق سوية الأرض اليبس؛ فلم يعد أمامنا مد الفضاء، غير طبقين من زرقة البحر وزرقة المساء! فكأنما كان نسيجاً أعده مصور فنان ليتلقى عليه آية إلهامه وإبداع فنه. وكان لون الماء قد ارتد إلى لون الزجاج المذوب؛ وقد سرت في الموج رعدة قوية جاءته من ناحية المغرب، مع أن الريح كانت تهب حينئذ من جهة المشرق، ثم ثارت من الشمال إلى الجنوب أمواج عالية، كانت تفتح في ثنايا أوديتها فُرجاً طويلة يقع النظر منها على صحاري المحيط. كانت هذه المناظر المنتقلة تختلف وجوها في كل لحظة: فتارة تكون سلاسل من الربى المخضرة، كأنها أخاديد الأحداث في مقبرة واسعة، وتارة تكون إرسالا من الموج تتراغى أعإليه فتحكى قطعاناً من الغنم البيض قد انتشرت في حقول الخَلنْج؛ وغالباً ما ينطبق الفضاء فلا ينطبق عليه تشبيه، فإذا ارتفعت موجة على متن المحيط، وانخفضت لجة فصارت كالساحل البعيد، ومر رَعيل من كلاب البحر في خط الأفق، انفتح الفضاء أمامنا فجأة. إنما كنا نتصور اتساع المدى وانفساح الطرف إذا ما تسحب على وجه البحر ضباب خفيف، فكأنما كان يزيد في سعة الافق، ويدفع في امتداد الجو!
آه! لشد ما كانت صور الأقيانوس في تلك الساعة مظهر عظمة ومثار حزن! ولله تلك الأحلام التي يلقيك فيها ويغمرك بها! سواء بايغال الخيال في بحار الشمال بين الصقيع والزوابع، أو بإرسائه في بحار الجنوب على جزر الرخاء والغبطة؟
كان غالباً ما يحدث أن نهب من النوم بعد وهن من الليل فنجلس على ظهره السفينة حيث لا نجد إلا ضابط النوبة وبعض البحارة يدخنون غلايينهم في سكون وصمت، وكان كل ما يقع في الأذن إذ ذاك إنما هو صوت السفينة تشق بحيزومها عباب المحيط، على حين كان