وفي ذلك الحين لم يكن يسمع في موناستير سوى صفير الرصاص ودوي المدافع، ولم يكن يرى فيها سوى جحافل الجيوش المتأهبة لمقاتلة اليونان الذين استولوا على كريد، وكان الجو يضطرب بإشاعة الحرب واقتراب ساعة الخطر على الإمبراطورية، وأخذت نسور أوربا تتأهب للانقضاض على الجثة محاولا كل منها أن يظفر بنصيب الأسد. أما في داخل الإمبراطورية فهناك فقر مدقع، وبؤس ملح، وحكم فاسد، واستبداد خانق، أضحت معه حياة الأتراك حلما مروعا وكابوسا ثقيلا، إذ سلب السلطان عبد الحميد الأتراك أمنهم وحريتهم، فنشر عيونه في كل مكان، وألقى بالأتراك في أعماق السجون. فعم الذعر وساد القلق كل الناس، ونادى الشبان بالإصلاح، واضطرمت النفوس بالثورة، ولا سيما في بلاد البلقان حيث يوجد مستودع البارود على وشك الاشتعال عاجلا أو آجلا وكان الشاب مصطفى قد هضم كل الأفكار الحديثة الشائعة في أوربا في ذلك الحين وتشبع بها فخالطت لحمه ودمه، فكان إذا تأمل حالة وطنه وما يقاسيه من ألوان العسف والإرهاق إلى مرجل قلبه ومني نفسه أن يكون على راس ثورة تقتلع الاستبداد من اساسه، ويكون هو بطلها البارز وسيدها المطاع، وهكذا تتجلى عظمة بطلنا في حساسية نفسه الكبيرة التي تأبى أن يطمئن له بال أو يهدئ له ضمير حتى يتحقق مثله الأعلى وغرضه الأسمى في الحياة.
وفي أيام العطلة كان يذهب إلى سالونيك لزيارة أمه، ولكنه كان ينأى جهد استطاعته عن الحياة المنزلية، وظل الصفاء بينهما حتى تزوجت، أنكر عليها الزواج ولم يرتح إليه وصارحها بهذا، فتشاجرا وحل بينهما بعض الجفاء.
وقد تعلم إبان إقامته في سالونيك مبادئ اللغة الفرنسية بمعونة الرهبان الدومنيكان، فتعرف إلى شاب يكبره قليلا يدعى فتحي كان حييا أنيس المحضر، وكانا يقران معا في شغف شديد أدب روسو وفولتير وبعض الكتاب الفرنسيين كما قرأ كتب استوارت مل وهبز في الاقتصاد، وكان بطلنا لا ينئ عن حث الطلبة على إنقاذ الوطن من استبداد الخليفة ومطامع الدول الأجنبية كما كان يكتب وينظم القصائد النارية متغنيا بجمال الحرية،