للأستاذ عز الدين التنوخي كاتب سر المجمع العلمي العربي
دوى في دمشق تلهج به الألسنة ويردده الهواء بين الأحياء، وصدى الدهر يثير من النفوس روائع الدهشة، ويبعث فيها نوازع الاستطلاع، ويعين على تمكين ذلك من النفس التاريخ بابتعاده، والتخيل بامتداده، مئات من السنين، ومئات من الشعوب والقبائل والأجيال تمر وتنطوي على كنيس الصالحية ما بين دير الزور وأبي كمال، وهو (منذ أسس بنيانه سنة ٢٤٤ ب. م) لا يزال قائماً بفارع جدرانه، وماثلاً بروائع ألوانه، يعرب بلسان الزمن عما مر بالبشر من أيام هناء وبلاء، مخبراً عن أمم زالت، ودول دالت، وأحوال حالت، مما يمحص به أبناء العصر الحاضر حقائق الدهر الغابر، فينقلب به ما كان حقيقة وهماً، وما كان وهماً حقيقة
كنيس الصالحية، وما أدراك ما كنيس الصالحية، رأيت ألواحه الجبسية المقطوعة بالمنشار متفرقة، وهي أوصاله بل أشلاؤه الممزقة، فراعني - لعمر الحق - منظرها، وأكبرت بعد التأمل الطويل مخبرها، ثم تصورت هذا الكنيس الأثرى النفيس، وقد التأمت بجوار السليمانية غداً أجزاؤه، والتحمت بعد طول الشتات والبلى أشلاؤه، فملك بتصوره القلب قبل الطرف، والهج اللسان بما لا يحيط به الوصف البارع واللسان المبين: ذلك أن صورة تلك الألواح لا ينقصها لأتقنها ألا الأرواح المثيرة والقوة المجيرة، فتغمزك بعيونها، وترمز إليك بشفافها، وتحدثك بأفواهها عن جلية أحوالها، وأخبار رجالها ونسائها وأطفالها، ولو أنها استطاعت ذلك لأغنت المنقبين والمؤرخين عن كثير من التنقيب والاستقراء والأنفاق المستمر الفادح، والعناء المتواصل المنهك
اجل، هذه الألواح لا ينقصها ألا الأرواح، فإن لكل منها جهارة رائعة، وشارة جميلة، إلى وجه سامي مسنون، وانف اقنى، وعينين ناطقتين في صورة إنسان سبط القوام، متناسب الأعضاء، تلمح عليه دلائل القوة والفتوة وتلمع في عينيه شواهد النبل والفضل
ففي لوح مستطيل منها ترى صورة موسى النبي بيده الألواح وهو بوجه المخروطي الصبيح، يشبه السيد المسيح، تحيط به هالة قاتمة اللون من شعر رأسه الفاحم ولحيته