في هذه الأيام العِجاف يكثر الكلام في الغنى والفقر. والكلام في الغنى والفقر وما يتصل بهما يوشك أن يكون الوظيفة الطبيعية للسان الإنسان؛ ففي الرخاء يكون تعبيراً عن سخط مكظوم، وفي الشدة يكون تبريراً لسخط منفجر. فإذا وجدت في الفقراء من لا يسخط على الأغنياء فثق أنه من أتباع الفلسفة التي تؤمن بمبدأ التعويض في قانون الطبيعة وتقول:(إذا لم يكن للفقراء الأرض فلهم السماء، وإذا لم يُرزقوا المال فقد رُزقوا الصحة؛ والآخرة خير وأبقى من الدنيا، والعافية أعلى وأغلى من الثروة)
من هؤلاء الذين جعلوا القناعة فلسفة رجل من القُرَّاء المنكَري الصوت لا يملك في أكثر أوقاته غير قوت يومه، ولكنه مع ذلك موفور الحظ من السلامة؛ لا يتسخط ولايتبرم، ولا يجد في جسمه ما يشكوه، ولا في نفسه ما يرجوه، ولا في غده ما يخافه. رآني بالأمس جالساً في مكان ضاحٍ من القهوة أنقع في أشعة الشمس الفاترة جسديّ المقرور وعليَّ من ثياب الشتاء لفائف فوق لفائف، فأقبل إليَّ يطفر طفور الظبي بين المناضد المصفوفة وليس على جسمه غير غلالة بيضاء من التيل، وعباءة سوداء من الصوف قد رفع ذيلها إلى عاتقه؛ ثم جلس متهلل الوجه متماسك البدن مكتنز اللحم رفاف البشرة يكاد إهابه من فرط الرِّي وسورة المرح ينشق. فلما تكلم وجدته على ما عهدته من فراغ البال وسلامة الصدر وقلة المبالاة فلم أتمالك أن بدهته بهذا السؤال: أفِي هذه السن وفي هذه الأيام لا أرى للخبز المخلوط أثراً على وجهك، ولا أسمع للمجاعة المتوقعة ذكراً على لسانك؟
قال الشيخ منصور بلهجة الخِليِّ وضحكته: والله يا سيدي ما أكلت الخبز نقياً من قبل حتى أشكو خلطه اليوم. ومن تعود أن يأكل الخبز مخلوطاً بالحصى والتراب، لا يصعب عليه أن يأكله مخلوطاً بالذرة والرز. أما المجاعة التي يتوقعها الناس فلا تختلف عما أنا فيه. وإذا جاز لي أن أشكو، شكوت إلى الله طغيان الصحة؛ فإن للصحة الطاغية تكاليف أقلها النهَم والقَرَم وتحلب الريق وسُعار الجوف وسرعة الهضم. وتحقيق الشبع الدائم للشهوة الدائمة لا يمكن إلا بخزائن عاشور ومخازن عمرو. إني أسأم الصحة كما يسأم غيري المرض. وفي ساعة من ساعات الشرَه يقوم في نفسي أن الله قد منح الفقراء الصحة ليزيد ألمهم من الحرمان؛ ولكنني حين أُسكن أطيط أمعائي بفطيرة من الذرة وطبق من المش ورأس من البصل وحزمة من السريس، ينمحي ما صوره الخيال في ذهني من أطيب