وكنا قد أوشكنا أن ندخل في رجب، وكانت حريصة على زيارة موتاها في كل موسم، بل في كل خميس وجمعة، لا تهمل منهم أحداً، فتطوف بهم جميعاً وتقرأ لهم الفواتح، ولا تأكل فاكهة جديدة حتى (تفرق) منها على قبورهم، وكان ذلك يثقل علي، ولكني كنت أكلها إلى رأيها فيه، إيثاراً لمرتضاتها
فقلت - بلهجة من ضاق صدره: - (كيف أزوره وهو ميت وأنا حي، وهو تحت الأرض وأنا فوقها، فلا يسمع مني ولا يراني ولا يحسني؟)
فقالت:(إني أراك مغتراً بالحياة ومعتزاً بها، ولا أستحسن لك هذا) ولم تزد، فأقصرت أنا أيضاً وقد شعرت أني آلمتها بسخافتي وحماقتي، وكرت الأيام، فما يقف الدهر، وماتت - كما يموت كل حي - فكان أوجع لي من موتها أنها ذهبت وهي موقنة أني لن أزور قبرها، وكأنما أردت أن أغالط نفسي فيما تحسه من الوخز والندم، فجعلت أزورها من حين إلى حين، ولكني كنت أتسلل كاللص، وأتخير أوقاتاً غير أوقات الزيارة المألوفة، فلا يعلم بذلك أحد، ولا يراني مخلوق، ثم كففت لأني أنكرت هذا كله من نفسي، وكبر علي أن أذهب إلى المقابر على رجلي، وقلت لنفسي:(إذا كان المراد بالزيارة الذكر، فإنها به أبداً بين العين والقلب، وإذا كان صحيحاً ما يقال من أن الميت يموت مرة أخرى كلما نسيه واحد من الأحياء، فإني لن أجني ميتة جديدة على أمي ما دمت حياً)
ولم يفتر ندمي مع ذلك، فظل دائراً في نفسي، فتشددت، وحملت نفسي على مكروهها، ومضيت إلى قبرها في ليلة سوداء - أعني مظلمة - وفتحت الباب ودخلت المقبرة وقلت (السلام عليكم) كأنما أردت أن أونس نفسي بصوتي في هذه الوحشة، فما راعني إلا صوت يقول:(وعليكم السلام! من تراك تكون؟)
فذعرت، وهممت بالجري، ولكني استحييت، فما يمكن أن يرد السلام غير حي، ولعله مسكين أوى إلى هذا المكان الموحش من الفاقة، وما أكثر من رأيتهم يفعلون ذلك! فما