كانت مدينة الفسطاط منذ القرن الثاني للهجرة مركزاًللتفكير والآداب , يحج إليها كثير من أعلام المشرق. وكانت مصر قد بدأت تتبوأ مكانتها الفكرية والأدبية بين الأمم الإسلامية، منذ استقرت شئونها السياسية في عهد الدولة العباسية. ولم تكن مصر منذ افتتحها الإسلام أكثر من ولاية تابعة للخلافة. ولكنها كانت بين ولايات الخلافة أشدها احتفاظاً بشخصيتها وألوانها القومية؛ وكانت منذ البداية تأخذ نصيبها في بناء صرح التفكير الإسلامي؛ ولكنها كانت تشق طريقها الخاص. وكانت منذ الفتح مركزاً هاماً للسنة والرواية، يحتشد فيها جماعة كبيرة من الصحابة الذين اشتركوا في الفتح والتابعين الذين عاصروهم. وفي القرن الأول أيضا وضعت بذور الحركة الأدبية فنمت وأزهرت بسرعة , حتى أنه يمكن القول أن مصر كانت منذ القرن الثالث قد كونت أدبها الخاص. ولم يأت القرن الرابع حتى كان هذا الأدب يتميز بخواصه المصريةالقوية مما عداه من تراث التفكير العربي في المشرق والأندلس.
وكانت الفسطاط عاصمة الإسلام في مصر منذ قيامها عقب الفتح سنة ٢١هـ (٦٤١م) حتى منتصف القرن الرابع. وقد قامت بجوارها مدينتا العسكر والقطائع دهراً. ولكن العسكر كانت مركزاً للإمارة والإدارة فقط، وكانت القطائع وهي مدينة بنى طولون مدينة بلاط فقط، أما الفسطاط فكانت قلب الإسلام النابض في مصر، ومهد التفكير والآداب في تلك العصور وحتى بعد أن قامت القاهرة المعزية سنة ٣٥٨هـ (٩٦٩م) لم تفقد الفسطاط أهميتها الفكرية والأدبية، بل لبثت بعد ذلك عصوراً تشتهر بحلقاتها ولياليها الأدبية. وكانت هذه الحلقات والليالي الأدبية من محاسن الفسطاط، يشيد بأهميتها وجمالها أدباء المشرق والمغرب الوافدين على مصر. وكانت في الواقع نوعا من الأبهاء الأدبية فيها الأدباء والشعراء، للقراءة والسمر والجدل والمساجلة , وكانت مهاد اللقاء والتعارف بين الأدباء المحليين والنزلاء الوافدين من عواصم الإسلام الأخرى.
وقد بدأت هذه الحلقات الأدبية في الفسطاط منذ القرن الأول. ولكنها كانت في بدايتها فقهية