امرأة أحبت كل الحب، وآمنت كل الأيمان بمن تحب. . . وكانت عاشقة برح بها العشق فأذبل منها العيون وقرح الجفون وأحال ليلها سهداً متصلاً يرفده الشوق؛ وحنيناً مضطرماً يلهبه الوجد؛ وهياماً تكفر فيه الجنوب بالمضاجع وتسبح الدموع!
كان حباً عظيماً لأنه وليد إيمان عظيم. . . وهكذا تجسد الحب الصادق في أرفع منازله وأعمق منابعه وأنبل معانيه؛ لم تشوه من جلاله غاية، ولم تعبث بطهره غواية، ولم يرق إلى سمائه جناح في دنيا المحبين!
وما كان أعجبها قصة حب. . . بل وما كان أعجبها قصة حياة! حب لم يكن الباعث عليه شيئاً من الترهيب أو من الترغيب؛ وحياة ما أبعد الشقة فيها بين طرفين؛ وما أكثر التنافر بين بداية ونهاية. وحين يكون الحب خالصاً لوجه الحبيب فقد بلغ الذروة وأشرف على الأوج؛ وحين تكون الحياة تطرفاً في شوطها الأول فهي تطرف في شوطها الأخير، سواء أكان التطرف مصدره الاعتدال هناأمكان مصدره الانحراف هناك!
وهكذا كانت رابعة العدوية. . . وهكذا كانت عاشقة السماء. عاشت في عصر يحفل بالشذوذ ويعج بالمتناقضات، عصر أقبل فيه أناس على الرذيلة حتى ما يردعهم رادع من دين وحتى ما يزجرهم زاجر من خلق؛ فليلهم إغراق في الأثم ونهارهم إمعان في المعصية وأقبل غيرهم على الفضيلة متى ما تهدأ قلوبهم من خوف وما تسكن نفوسهم من قلق، فليلهم إيغال في التهجد ونهارهم إسراف في البكاء. وكانت البصرة في القرن الثاني للهجرة موطناً لأولئك كما كانت موطناً لهؤلاء. . . وإلى المتطرفين في الضلال والوزر سلكت رابعة أول الطريق، وإلى المتطرفين في الإيمان والزهد بلغت من هذا الطريق منتهاه.
انحدرت من صلب أبوين فقيرين؛ لم يجدا ليلة مولدها شيئاً مما يلف به كل وليد. . . وكانت مولاة لآل عتيك، وإلى بطن من بطون قيس تنتسب هذه القبيلة كما تنتسب إليها قبيلة أخرى هي بنو عدوة، ومن هنا سميت عند بعض المؤرخين برابعة القيسية وسميت عند البعض الآخر برابعة العدوية. وحين اكتملت لها الأنوثة ونضجت فيها الفتاة، فقدت العائل في شخص الأب حين مات وحرمت أسباب البقاء في البصرة حين أصابها القحط. .