لم يكن غرضي في هذا الأحاديث أن أعسر الحساب مع شعراء المدرسة القديمة، ولا أن أتتبع هفواتهم، وأخطاءهم، وإنما أردت أن أكون مؤرخاً. وهذا هو الهدف الرئيسي لهذه البحوث، فإذا صحب ذلك شيء من النقد فإنما هو استطراد وأستتباع، وليس من الأنصاف أن نغوص في ثنايا هذا الشعر محققين مدققين، وحسبنا أن نقف هذا الموقف (السمح) وأن نلمس هذا الشعر لمساً خفيفاً رفيقاً وأن تبرز صفاته العامة، ونكشف سماته المشتركة، دون أن ندخل في التفاصيل فنحكم لشاعر على شاعر، أو نضع الشعراء في طبقات كما كان يفعل بعض النقاد القدامى، فذلك ما لا أريده، أو بالأحرى ما أعتقد إنه عن غرضي بمنأى، وإنما كان الأنصاف في مسلكي الذي سلكته لأنه يكفينا من هؤلاء الشعراء أنهم قالوا الشعر في تلك الأيام الخوالي بل قالوه في أغراض لم تكن البيئة مهيأة لقبول القول فيها. ولعل بهذه الكلمات أكون قد أجبت ذلك الفاضل الذي كتب إلي (يلومني) على أني أكتب بقلم المؤرخ لا بقلم الناقد وأتجاوز عن أشعار كان الواجب يقتضيني أن أكشف للقراء بهرجها، ثم أمضي إلى الغرض.
في حديثي السابق تحدثت عن شعر النسيب، وذكرت أن كبار العلماء قد خاضوا فيه، وفي حديث اسبق تحدثت عن مكانة المدائح النبوية وكثرتها عند السودانيين، وكان وقع في نفسي حين وجهت النظر إلى كتابة هذا البحث إني سأظفر بقصائد رائعة في الغزل على طريقة (ابن الفارض) فإن جميع الأسباب كانت مهيأة لهذا الغزل الإلهي، فكثير من العلماء الزهاد شعراء، وقد بدت رغباتهم في شعر الغزل. ولشعر ابن الفارض مكانة خاصة عند المتصوفين من هؤلاء العلماء، ولكن شد ما أخذ مني العجب حين لم أجد من هذا النوع شيئاً تطمئن إليه النفس، ولاشك أن خلو الشعر السوداني من هذا النوع - وقد تهيأت أسبابه - أمر يدعو إلى العجب.
ولمكان الدين عند الشعراء لا تجد الهجاء غرضاً ذا بال في أشعارهم، والذين قالوا في هذا الغرض لم يطيلوا فيه، بل ربما ذكر البيت والبيتين ومروا به مروراً سريعاً. ومن القليل