إلى هنا أثبت لكم الشيخ الرئيس وجود النفس، ووجودها مفارقة للمجسمية والمادة. ويهمني أن أنبهكم - أيها المتسابقون البواسل - إلى أن ابن سينا هنا في إثبات وجود النفس على غير عادته - أعني أنه في رسالته في النفس التي قلت لكم إنه ألفها ولم يبلغ العشرين للأمير نوح بن منصور الساماني قد نحا النحو الأرسطي في التصدي لإثبات وجود النفس قبل الشروع في تعريفهما وتقسيمها إلى نباتية وحيوانية وناطقة، ثم في تصنيف قوى كل من هذه النفوس، فقد كان في ذلك الحين مقتنعاً اقتناع أر سطو بضرورة إثبات وجودها أولاً. وفي ذلك يقول في مطلع رسالته المذكورة:(من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولاً أنسيته (يعني وجوده) فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح. فواجب علينا أن نتجرد أولاً لإثبات وجود القوى النفسانية قبل الشروع في تحديد كل واحدة منها وإيضاح القول فيه. . . الخ ص٢٠ وما بعدها من نشرة فنديك للرسالة مصر ١٣٢٥هـ
هذا ما يقول به ابن سينا حين يكتب في النفس كتاباً أو رسالة مستقلة، أما حين يكتب عنها في كتاب عام شامل كالنجاة فيرى أن يتناولها دائماً في موضعها من سلسلة الموجودات التي سبق أن أظهرتكم عليها، ويتحتم حينئذ ألا يعرض لإثبات وجودها إلا بعد أن يقسمها إلى أقسامها الثلاثة حتى ترتبط بما قبلها وما بعدها في سلسلة الموجودات، وهو بذلك لا يزيغ عن محجة الإيضاح - كما حكم على غيره ونفسه - لأنه هنا أكثر منطقية وأكثر تحرراً من أر سطو. وأياً كان موضع إثباته لوجود النفس؛ فإنه يذهب في هذا الإثبات مذهباً واحداً بعينه: هو التدليل على أن الحركة والإدراك - الذين هما من أخص خصائص القوى النفسية - هما من قوى زائدة عن الجسم، مفارقة للبدن (بدليل أن الأجسام لا تشترك كلها فيها) - ثم يتدرج إلى تقسيم النفوس إلى الأنواع الثلاثة المعروفة من الأعم إلى الأخص فتعريف كل منها وتفصيل قواه وملكاته على نحو ما تبين لكم من قبل.
وإذ أثبت وجود النفس، ينتقل إلى إثبات صفات أخرى تتعلق بهذا الموجود، كالوحدة،