أثرت في أعداد (الرسالة) الأخيرة حواراً طريفاُ حول (النقد) بمقالك الذي نشرته في عددها الذي صدر في ١٨ مايو الماضي، والذي عقب عليه الأستاذان أحمد أمين وطه حسين. وإنني أغبطك كصحفي لما صادف موضوعاً أثرته من هذا النجاح. وأي نجاح أكبر من أن يدخل حلبة الحوار صديقان من كبار كتاب مصر وأدبائها، فيقلبان من المواضيع في (النقد) ما كان ركد، ويشيران إلى مواضع ضعف في كتابنا وأدبائنا، شيوخاً وناشئين، ويصفان علة ركود النقد مع يقظة الأدب؛ ويدعوانني بذلك للاشتراك في حديث بعد العهد بيني وبينه؛ وما كنت أظنني أعود من بعد أليه
ولم يكن انصرافي عن النقد عن إيثار للسلامة، أو مداراة للجمهور، أو اندفاع في تيار هذا الجمهور بعد أن كنت أريد جذبه إلى تياري. كلا! وإنما كان انصرافي عن النقد وعن ألوان غيره من الكتابة أنني أيقنت أن فيما أنا بسبيله اليوم من مباحث في سيرة النبي العربي وفي عصره ما هو أجدى على القراء وعلى الغرض الذي أرجو للجماعة الإنسانية أن تبلغه مما كنت بسبيله من قبل. ولست أريد الآن أن أصف كيف حدث هذا التطور في نفسي فذلك أمر يطول بيانه. وإنما ذكرت منه ما ذكرت لأبين به السبب الذي انصرفت من أجله عن النقد وما يتصل به. وما أحسب منصفاً إلا أن ما يستنفده البحث في السيرة والاتصال بعصرها وبيئتها من وقت وجهد كاف ليشغل الباحث عن غيره من الأمور؛ هذا ولو أنه كان منقطعاً لهذا البحث. ما بالك إذا شغل بالصحافة وبغير الصحافة من شؤون لا تدع له فرصة التنقل من قراءة إلى قراءة، وتدبر كل ما يقرأ تدبراً يسمح له بنقده وتقديره نقداً عادلاً وتقديراً نزيهاً؟
ولست أريد بهذا الذي قدمت أن أعتذر عن انصرافي عن النقد ورغبتي عنه. فأنا أرى هذا الانصراف طبيعياً في شأني وشأن كثيرين غيري ممن عنوا بالنقد وتوفروا عليه منذ عشرين أو خمس وعشرين سنة مضت؛ أي في بدء حياتهم في الكتابة والأدب. وهو طبيعي إلى حد لا يجوز معه توجه اللوم إلينا. فأكثر الكتاب يبدءون حياتهم في الكتابة بالنقد