ليس أحب على النفس التي تحيا في هذا الجو الضيق الذي حل فيه الربيع بمواكبه عابساً يائساً من أن تنطلق في الحياة انطلاقة (الملاح التائه) الذي يخبط على غير هدى، لا غرض له من هذا الخبط إلا أن ينطلق وينطلق! فيضيع عن الشاطئ عبر هذا اليم الذي تلاشى عن عينيه شاطئه، وأصبح يحمل الموج لمن يسأل عنه صدى ألحانه، وفي هذه الألحان شوق غلاب ووجد ملح
حياة هذا (الملاح التائه)، هي ذات حياة ذلك البوهيمي الذي انطلق من قيود الحياة، وراح يطلب لذتها للذتها. إلا أن البوهيمي قريب منا حينما نطلبه؛ أما ذلك (الملاح التائه)، فقد انفصل عنا حتى ضنَّت الأمواج علينا بالإبقاء على آثار زورقه! فنحن نسمع أصداءه، ولكن لا نعرف مصدر تلك الأصداء؛ ونطرب لألحانه المقبلة مع الموج المتهدل، ولكن هذه الألحان تبقى مجهولة الإيحاء!
أين صاحبها؟ وأية موجه تلفُّ الآن زورقه؟ وأي شاطئ مرصَّع تفتح أمام عينيه؟ أذكر أنني تلوت نقداً لديوانه الأول يلوم الشاعر على أنه يهمل مشاهد بلاده، ويمعن في وصف مشاهد غريبة عنه وعن أهله؛ ولكن غرب عن الناقد أن - شاعرنا ملاح تائه - يعبر كل البحور، ويرف ناظره على كل الشواطئ، ويكحل جفنه بأي نوع من الجمال. ومتى انطلق الشاعر من هذه الحدود، ترامى أمام طرفه، لا نهاية فسيحة تبدو عليها حدودنا خطوطاً تكاد تلوح كباقي الوشم إزاء عالمه الفسيح!
وفي (ليالي الملاح التائه) مشاهد غريبة - عن غير هذا الشاعر - توحي إليه عاطفة شديدة الإحساس، لكنها في هذه المرة لا تكاد ترتدي - الإنسانية - رداء حتى يردها إلى الأرض التي انفصلت عنها نوازع فيها الوجد والحنين والاضطراب والكآبة. . . وكل هؤلاء نعم القرين للشاعر! وإذا كان لا بد من النقد، فإنني آخذ على صاحب الليالي حشده لبعض