قال لي صاحبي: خرجت من الدار - منذ أيام - وقد شغلتني حاجات الدار والولد، واكتنفتني شواغل الوظيفة، فأنا بينها مضطرب العقل موزع الذهن، لا أستقر على حال ولا أقيم على رأي؛ فانطلقت مفزعاً علي أجد متنفساً في الشارع ملهاة لخاطري ومسرحاً لفكري. ورحت أضرب في أنحاء المدينة لا أبتغي هدفاً ولا أصبو إلى غاية، أقلب النظر في حياة المدينة وفي قفزات الحضارة وفي مشاغل الناس. . . فما راعني إلا أن أرى كلباً ملقى على الطوار يئن أنيناً خافتاً فيه الألم والاستسلام، ويرمق الناس بنظرات راجفة فيها الضيق والخوف، فنظرت فإذا ساقه مكسورة وإذا الدم ينزف متدفقاً في شدة وعنف، وإذا الناس يمرون بازائه في غير عناية ثم يندفعون كل إلى هدفه، وما فيهم من يعبأ بالجريح الطريح على الطوار. ونبض قلبي بالرحمة واختلج فؤادي بالحنان فاندفعت إليه. . . ولكن ولشد ما آلمني أن أراه ينبح نباحاً عالياً متواصلاً، وأن أجده يجر نفسه بعيداً، وفي نظراته الخوف وعلى سماته الفزع! فقلت لنفسي (يا ويح قلبي! لأمر ما فزع مني هذا الكلب الجريح!) ورحت أروضه في هدوء، وأذلله في عطف، حتى اطمأن إلي وسكن رعبه فاستكان واستسلم، وأنا في حيرة من أمره أجيل فيه البصر والفكر معاً؛ وتراءى لي أنه يحدثني حديث صديق حبيب، وسمعت من وراء أناته كلمات ترن في مسمعي كأنها تقول (آه يا صاحبي) كم في هذا الناس من يغرك بمظهره ويخدعك بروائه، تراه يزهو في ثيابه ويتألق في بهائه، تخشع النفس من هيبته، ويعنو القلب لأبهته، ويستأسر الفؤاد لصعره، على حين أن في إهابه روح خنزير وفي رأسه عقل حمار! أما قصتي - يا سيدي - فهي أنني غيرت ساعة من الزمان وأنا طريد صبي من أولاد الشارع يقذفني بالحجارة في غير ذنب جنيته، ويضربني بالعصا في غير جرم اقترفته؛ لا يزيده فراري إلا تشبثاً بي، ولا يدفعه نباحي عن أن يستأسد علي، ولا يصرفه تحرشي به عن أن يوسعني أذى وتعذيباً. ونظرت إلى وراء لأرى عذري فرأيت إنساناً تخلى عن إنسانيته فبدت فيه حيوانية جياشة تبطش بالعقل والحيلة. ولا عجب - يا سيدي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع