للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عفواً أيها النقاد!

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

أطلب إليكم العفو يا معشر الناقدين، فإني لا أقصد بهذه الكلمة إلا الدعابة والمفاكهة - فقد رأيت الصيف قد اشتد، واحتدمت وقدته، وأردت أن أتقرب إليكم بما يزيل لسعته أو يخفف منها - ولا أدري ما الذي أغراني بهذه المداعبة المخطرة، فوالله لقد كنت أرى أن مداعبة الفهود والنمور أهون أمراً وأسلم عاقبة من مداعبة نقاد الأدب. ولقد كانت دوني لو أردت مندوحة عن ذلك التعرض، فلو شئت لداعبت الأدباء كافة، ولم يكن علي بأس منهم، فإني لا أخشى من الأدباء بطشاً ولا صولاً، لأنهم يسيلون رقة وليونة، وقد طبع الله في قلوبهم وداعة وسلاماً، فمنهم من يأخذه الجمال فيسلم له قياده حتى ليصير كالحمل يصرفه أضعف الخلق كيف يشاء، وإن منهم قد استغرقه الفكر وغلب عليه فلا تراه إلا حالماً لا يكلف أحداً مؤونة في تصريفه ولا مشقة في معاملته - فهؤلاء لا يأتي خوف من قبلهم ولا يتكلف المرء حيطة في معابثتهم - ولكن الناقد - والله يكلؤنا بحمايته، فبه صلابة وله شوكة؛ فهو دائماً معقود الجبين على الصرامة، محملق العينين على اليقظة، كثير التجهم واللوم، فإذا أخذته الرقة أحياناً رأيته يربت على كتف الناس متنازلاً من عليائه، وكل حركة من حركاته تنم عن دخيلة نفسه وكمين عقيدته، إذ كأنما يقول عند ذلك: (إنا نعطف على هؤلاء المساكين تشجيعاً لهم حتى لا تنكسر قلوبهم)

لست أدري ما الذي أغراني بهذه المداعبة إلا أن يكون هذا الصديق العجيب التأثير الأستاذ أحمد حسن الزيات، فإنه منذ كتب في النقد وأنا أمانع نفسي وأغالبها لكي أمتنع عن الخوض في الميدان الذي أثار غباره - ثم هاأنذا تغلبني نفسي على الأمر، فأكتب للنقاد متعرضا ًلما يتعرض له الداخل إلى حظائر السباع

على أني مع ذلك قد قدمت في أول قولي إني إنما أداعب ولا أقصد إلا المفاكهة - فلعل تقدمي على هذا النحو يلوي عني الشوكة التي أخشاها، ويكف عني الغضب والنقمة

لقد جعل الأستاذ أحمد الأمين يحن إلى عصر مضى من عصور الأدب في مصر، وجعل يعير نقاد العصر الحاضر بالتقصير والميل حتى لقد استعبرت من فرط الأسى على ما فات من عصرنا الحاضر من جليل النفع. ولكني ما لبثت أن أفقت من أثر قوله وجعلت أرجع

<<  <  ج:
ص:  >  >>