كل شئ يجري في هذا العصر، وكل شئ يسرع. والعالم في إسراعه للأمام، لا يكاد يتلفت يمنة ولا يسرة، وان كان يتجه إلى الخلف في أحيان قليلة، ليرى كم قطع من المسافات.
فالبخار لم يعد يستطيع تلبية هذه الحاجة الملحة للسرعة فخلفه الطيران، والطائرات نفسها تكاد تعجز عن تلبيتها، فتزيد كل يوم في سرعتها، وتقوم المسابقات العالمية لهذا الغرض.
والتليفون والبرق لم يعودا كافيين، فإذا بالراديو وإذا بالتلفزيون لنقل الأصوات ولنقل الصور، بل لنقل المناظر ذاتها لا صورتها. وإذا بالأفلام الناطقة تعرض الصوت والحركة، وتغني بالعين والسمع عن الوهم والخيال!
هذه الظاهرة السيكلوجية الغربية، قد جرفت معها الأدب أيضا، وجرفت الفنون جميعا، وكان ذلك طبيعيا، لأن الفنون هي الظاهرة للنفس الباطنة.
فالفن اليوم لمحات خاطفة، وملاحظات سريعة، لا يقف للدرس العميق، والتحليل الدقيق، لأن طبيعة العصر لا تمهله للوقوف، وإلا سبقته الحياة بآلاف الأميال.
والمجلات العلمية اليوم تكاد تنعدم، والباقي منها أخذته نشوة السرعة أيضا فلم تعد بحوثه مركزة، ومع ذلك فهي لا تجد العدد الكافي من القراء فتضمحل وتذوي، وتدرج في زوايا النسيان.
وأنا على يقين من تبدل هذه الحال، فالعالم الذي يجري الآن بكل قوته، لابد أن يدركه الكلال، ولابد أن تنقطع به هذه النشوة الطائشة، فيتمهل ليعرف ما يحيط به.
وسيضحك العالم من نفسه يومئذ على تلك الحماقة التي ارتكبها، كما يرتكب الأطفال حماقاتهم، ركضا وجريا ووثبا ثم يفيقون من هذه الغمرة عندما يكتمل نضجهم، ويتوبون إلى الرشاد
النشاط شيء، والعجلة شيء آخر؛ وإذا كان النشاط من مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فليس للعجلة هذه المزية مطلقا، بل أن لها أضرارا، قد لا تعرف اليوم في أبان هذه النزوة الطائشة؛ وقد تعرف ولكنها لا ترد إلى أسبابها الحقيقية، ولا تعلم علاتها الأصلية!
ويقيني أن هذه الأزمات التي يعانيها العالم اليوم من مالية وسياسية وأدبية واجتماعية، انما منشؤها هذه السرعة، هذا التسابق، هذا الجنون، الذي يعمي الإنسان عما حواليه، فلا يرى إلا الإمام. دون ما على الإيمان والشمائل. . وحتى حين يصطدم بما حواليه، فهو لا يقف