للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ذكريات. . .]

للأستاذ علي الطنطاوي

هما موقفان لا أزال اذكرهما، أو تغمض عيني كف الغاسل:

أما الأول فعلى ضفاف بردى، في الثامن والعشرين من سبتمبر ١٩٣٦

وأما الثاني فعلى شاطئ دجلة في الخامس من مايو ١٩٣٧

كان بردى يخطو على مهل، متهللاً منطلق الوجه، يرد على الشمس الوليدة أول تحياتها، وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء. . . وكنت في السيارة الفخمة، انظر إلى جموع المودعين من الصحب والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح، ليودعوني قبل نزوحي إلى العراق فأقلب النظر في وجوههم، شاكراً لهم فضلهم، حزيناً لفراقهم، ثم أتأمل بردى صديق الصبا وسمير الوحدة ونجي النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحور والصفصاف تميس دَلاً وتيهاً، وارى ظلال المآذن البعيدة السامقة تضطرب في الماء فابصر فيها ذكرياتي حية تطالعني وتحدثني، وتعيد على مسمعي قصة حياتي، وتتلو علي تاريخي فأحس بلوعة الفراق، وأشعر في تلك الساعة باني احب دمشق. . . دمشق مثوى ذكرياتي، ودنياي من الدنيا، وغاية أملي في حياتي. . . ثم يطوي المرج هذه الصور كلها، ولا يدع حيال عيني إلا صور اخوتي، فأتأملها بعين دامعة وقلب واجف خائف من الفراق، ثم تجتمع كلها في وجه واحد، هو احب الوجوه إلي وأدناها إلى قلبي. . . والمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان. فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر، ويعود حياً جديداً. . .

. . . رأيتني في محطة الحجاز، آية الفن الحديث في دمشق، والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمن مسافر عجل، ومن مودع باك، ومن بائع يصيح. . . ومن آت وذاهب، وطالع ونازل. . . وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا، وإلى جانبي أختي الصغيرة. . . انظر إلى بعيد، فأرى هناك، في أخريات الناس امرأة تمسك بيديها طفلين، ملفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً، ولكن وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا من القطار. وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً، ويسيل دمعاً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجو، وزلزالاً شديداً يدك نفسها

<<  <  ج:
ص:  >  >>