وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد قلبنا خفقاناً واضطراباً، ثم قذف إلى الجو بدخانه كأنما هو حي قد اخذ بموقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين، والألم الحبيس ثم هدر وسار وراحت المحطة تبتعد عنها وعني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض، حتى غاب عني كل شئ. . .
هنالك تلفت فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجد لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار - لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها اكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى واجلد. . .
أردت أن القي بنفسي لأني لم اكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي التي كان تعلقها بنا، وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان. . . آه ماذا تفيد (كان)، وقد كان ما كان؟. . .
تلك هي أمي، التي مر على (غيابها) عني سنوات طوال، ولكني أحس كان الحادثة كانت أمس - فتحز في نفسي ولا أطيق أن اكتب عنها حرفاً
تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً، بعد أبي رحمهما الله، وكانت حبيبة وكانت أستاذة، وكانت دنياي وكانت آخرتي. . . وكانت أمي!
تلك هي أمي التي فوجئت كما تفاجأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً. . .
تلك هي أمي التي ما نسيتها - علم الله - أبداً، ولم اذكرها أبداً، كأنها تملأ نفسي ولكني لا اجري ذكرها على لساني. أراها في أحلامي حية فاشعر كأني عدت حياً، وأهم بعناقها وافتح عيني فأجد على وجهي حر لطمة الدهر الساخر، ولكني احمل اللطمة. وأغضى على القذى، ولا اخبر اخوتي بشيء، لئلا اذكرهم ما هم ناسون، أو اجدد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونه. . . ولعل كل واحد منهم يحس مثلما أحس ويكتم مثلما اكتم!
ذكرت ذلك ساعة الوداع، لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلا معنى واحد هو إني اذكر وفاة أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه
فلما صحوت نظرت في وجوه المودعين فلمحت وجه أمي مرة ثانية، ولكني لمحته حياً