للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[هكذا قال زرداشت]

للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه

ترجمة الأستاذ فليكس فارس

رأيتني هجرت الحياة واخترت مهنة حارس للقبور على الجبل المقفر حيث يرتفع قصر الموت، فكنت أحرس النعوش وهي أسلاب النصر تغص بها الدهاليز المظلمة، فكنت أرى الساقطين في معترك الحياة المسجين في التوابيت المغطاة بالزجاج يحدجونني بنظراتهم المروعة. وهنالك نشقت عرف الأبدية غباراً يتطاير على روحي فيرهقها ولا أستطيع أن أنفض عنها هذا الغبار الثقيل

وكانت أصداء الليل تدور بي ومعها شبح العزلة والانفراد، فكان رفيقي سكون الموت تتعالى فيه من حين إلى حين حشرجة المدنفين

وكنت أحمل المفاتيح وقد علاها الصدأ أعالج بها أصلب الأبواب فتصرف مصاريعها بصراخ أبحّ لئيم يذهب مدوياً في الدهاليز كأن الدرفات أجنحة تقبضها أطيار تنعق متململة ممن يريد تنبيهها من رقادها

وعندما كان يخيم السكوت بعد هذا الدوي كان يبلغ رعبي أشده فأبقى وحدي محاطاً بهذا الصمت الرهيب

ومر الزمان متمهلاً، لو صح أن في مثل هذه الرؤى زمان، إلى أن وقع ما أفقت له مذعوراً.

قرع الباب ثلاث مرات بدوي كأنه الرعد القاصف، فهتفت الدهاليز ثلاث مرات بصدى كأنه الزئير، وتقدمت إلى القفل أعالجه فلم يتزحزح قيد أنملة، وهبت العاصفة بشدة فدفعت بالمصراعين ورمت إليّ بنعش أسود وقد تصدع الهواء بالصفير والولولة وسقط النعش فانحطم وخرجت منه آلاف من القهقهات، فرأيت آلافاً من الأطفال والملائكة وطيور البوم والمجانين والفراشات الضخمة يطفرون حولي ساخرين

واستولى الخوف عليّ فإذا أنا مطروح على الأرض أصرخ صراخاً مريعاً فانتبهت لصوتي مذعوراً.

وسكت زارا لحظة وهو حائر فإذا بأحب أتباعه إليه ينهض ويقبض على يده قائلاً: (إن

<<  <  ج:
ص:  >  >>